تنبيهاً قوياً من قبل الفطرة النفسية، ثمّ يصحو العقل الواعي متجهاً شطر الجهة التي نبّهت عليه الفطرة، أو هدت إليها. ثمّ يأخذ العقل باحثاً بمنطقه عن القوة الغيبية المهيمنة على الوجود، وفق مناهجه الاستدلالية.
على أن قضية الإيمان بالله عزّ وجلّ تتم في أوضاع نفسية هادئة مستقرة، وتنشأ نشوءاً متدرجاً، معتمدة على منطق العقل من خلال ملاحظاته لظواهر الكون وأحداث الحياة، ولا تتم في حالات نفسية مفاجئة إلا نادراً.
الكاشف الثاني: ما دام ميدان الأعمال اليومية يوجد فيه فراغٌ نفسي عميق لا يلمؤه إلا العقيدة الإلهية، كما اعترف بذلك "برجسون" فلماذا يكون اتجاه الفكر لقضية الإيمان بالله عملاً خيالياً، لخدمة حركة الحياة، دون مراعاة لمنطق الفكر الصحيح، وأدلته البرهانية كما زعم؟.
ولماذا لايكون هذا الاتجاه نفسه عملاً عقلياً استبصر به الفكرُ الحقيقة، بدليل أن كثيراً من كبار الفلاسفة والعلماء المؤمنين قد بنوا إيمانهم بالله عزّ وجلّ على منطق علمي عقلي، وعلى أدلةٍ هدتهم إليها مناهج البحث الفكري السليم، ولم يقتصر إيمانهم على مجرد الإحساس الفطري الغامض، ولا على رغبة بإحداث توازن نفسي لخدمة حركة الحياة، ولا على خوف من الوقوف والجمود فيها، لولا الأمل الذي يصنعه الإيمان بالله المستعان.
الكاشف الثالث: إن رأي "برجسون" الذي اعتبر فيه ظاهرة التدين وهماً ضرورياً، تسعف به الفطرة، لإيجاد التوازن بين مثبطات العقل ومقتضيات مسيرة الحياة، هو رأيٌ خياليٌ تماماً.
والسبب في ذلك أن بطلانه يكشفه واقع حال الملاحدة الماديين، فإن كفرهم بكل دين لم يعطل لديهم مسيرة الحياة. وإن كان قد أوجد لديهم متاعب نفسية مشقية لهم، غير خرافة التثبيط التي ادعاها "برجسون".
وهذه المتابع النفسية نتيجة حتمية لكفرهم بالحق، إذ يحرمون من الطمأنينة النفسية السعيدة التي يجلبها الإيمان بالله وباليوم الآخر.
* * *