وآلامها، ولم يجد بعد هذا مبرراً لوجود حياة أخرى غير هذه الحياة، مادام الوجود لا يسير وفق منهج حكيم، بحسب تصوره ذي النظر القاصر.
ولم يجد للآلام والمتاعب وأنواع الشقاء في هذه الحياة تفسيراً يبرّرها، فرفض الرأي الفلسفيّ القائل: "عن الكون عقلٌ يتصرف".
عندئذٍ بدا له أن يعلل الوجود بأنه إرادةٌ عمياء، ذات مطالب، ومن مطالبها بقاء الحياة في الأنواع دون اكتراث بالأفراد، وأن العقل أداة من أدوات الإرادة، فالإرادة العمياء تريد أولاً، ثمّ تستخدم العقل ليجد لها في منطقه مبرراته. وإرادة بقاء الحياة تستلزم أن يمرّ الأحياء على جسور الآلام والشقاء.
فحياة الناس شقاء في شقاء، وآلام في آلام.
ولذلك أعجبه من آراء الفلسفة اليونانية، أن اللذات كلها تخلص من الآلام.
ففكرته في تعليل أحداث الكون وكل ما يجري فيه قامت على أساس "أن العالم إرادة فقط" بلا علم ولا حكمة ولا عناية ولا رحمة ولا عدل. وقد ترتب على هذه الإرادة العمياء كفاح وجهاد وكدح متواصل، وهذه الأمور لا بد أن ينتج عنها بؤسٌ وشقاء.
وبالمنظار نفسه نظر إلى الدافع الجنسي، فرآه إرادةً عمياء، هدفها أن تهدم بالنسل عدوّها الذي هو الموت، وسمّى ذلك إرادة النسل، رغم ما يتضمّن التناسل من عناء وتضحية.
ورأى أن إرادة التناسل تسر في مجالها مستقلّة عن العقل سيراً أعمى. فأعضاء التناسل في تصور "شوبنهور" هي بؤرة الإرادة بعينها، وهي المركز الذي يقابله المخّ الذي يمثّل المعرفة من ناحية أخرى. وأعضاء التناسل هي أساس حفظ الحياة، لأنها تتضمّن حياة لا تنتهي، ومن أجل هذا عبدها اليونان واليهود منذ القدم.