والحركات في مقدار، وأن ذلك إنما قدّر تقديرا بعلم اللطيف الخبير، وهيهات للمقاييس البشرية أن تقرى على ضبط الكلام بهذه القوالب الدقيقة.
وعلى الرغم من أن القرآن لا ينضبط بشيء من أعاريض النظم وأوزانه المعروفة، إلا أنك تشعر مع ذلك بتوقيع موزون من تتابع كلماته، بحيث يؤلّف اجتماعها إلى بعضها لحنا مطربا يفرض نفسه على صوت القارئ العربي كيفما قرأ، إذا كانت قراءته صحيحة. كما تلاحظ لدى قراءتك لهذه الآيات.
ولعلّ من أبرز آثار هذه الظاهرة، أن حفظ القرآن غيبا أيسر على الإنسان من حفظ سائر أنواع النثر. ذلك لأنه منضبط بأوزان وإيقاعات خاصّة به، فيسهل بذلك حفظه والتنبّه إلى الخطأ الذي قد يقع القارئ فيه عند ما يقرؤه غيبا. بل المعروف لدى من مارس حفظ القرآن أن الخطأ قلّما يقع في حفظه وضبطه إلا من وجه واحد، هو ما قد يكون بين الآيات من تشابه، فيأتي الخطأ من خلط آية بأخرى والوقوع في اللبس بينهما.
ثانيا: دلالتها بأقصر عبارة على أوسع معنى:
وهذه ظاهرة جليّة تستطيع أن تتبينها في طريقة التعبير القرآني، مهما اختلفت بحوثه وموضوعاته لا تجد في الجملة القرآنية كلمة زائدة يصلح المعنى مع الاستغناء عنها، ولا تستطيع أن تترجم معناها بألفاظ عربية من عندك إلا في عدد من الجمل مهما حاولت الإيجاز والاختصار.
ولنستعرض طائفة من الأمثلة على ذلك، والقرآن كله، كما قلنا، مثال على هذه الحقيقة. حدّثنا القرآن عن الضمانات التي أعطاها لآدم بعد خلقه، مما يحتاجه الإنسان في حياته من كل ما يدخل في مقوّمات بقائه وعيشه. لقد وضع البيان الإلهي هذه الاحتياجات كلها في جملتين فقط وهما قوله عزّ وجلّ خطابا لآدم:
إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (طه: 118 و 119)، فتأمل في هاتين الجملتين، وألفاظهما وكيفية صياغتهما وكيف أنهما جمعتا أصول معايش الإنسان كلها من طعام وشراب وملبس