إلى تجسيد المعاني المجردة في كلامه وإخراجها في مظهر الأمر المحسوس. إلا أن هذه الوسيلة محصورة في استعمال الاستعارات والمجازات والتشبيهات. ولكل ذلك طرق محدودة لا مجال للخروج عليها. فهو يستطيع أن يصل بهذه الوسيلة إلى غايته التصويرية بمقدار وضمن حدود.
أما أن يجعل أحدنا من صياغة الجملة ذاتها ومن تآلف كلماتها مع بعض، مرآة يتجسد فيها المعنى المطلوب ويبرز محسوسا ومصورا أمام خيال القارئ، فذلك ما لا سبيل للإنسان إليه. وتلك هي الطريقة الغالبة لتصوير المعاني وتجسيدها أمام المخيلة في كتاب الله عزّ وجلّ. فحتى عند ما تجد الجملة القرآنية بعيدة عن استعمال المجاز والاستعارة والكنايات، ترى هذه الظاهرة بارزة متجلية في جمل القرآن وآياته.
ولن نطيل القول هنا في هذا الجانب الثالث فسنتناوله إن شاء الله بالتفصيل وذكر الأمثلة في مبحث التصوير في القرآن.
ثانيا: الإعجاز بالغيبيات:
ونقصد بالغيبيات تلك الإخبارات المتعلقة بأحداث مقبلة، والتي لم يظهرها بعد أيّ شاهد من العقل أو الحس أو الدلائل التي تعوّد الإنسان على الاعتماد عليها. سواء تعلقت هذه الأخبار بأحداث عامة، أو تعلقت بأناس أو فئات بأعيانهم، أو تعلقت بنواميس كونية.
ففي القرآن آيات كثيرة أخبرت عن أحداث ستقع في زمن مقبل، وفيه آيات تحدّثت عن مصائر أشخاص بأعيانهم، وفيه نصوص تقرر قوانين ثابتة بالنسبة لكثير من المظاهر الكونية المحيطة بنا. وقد جاء الزمن فيما بعد بمصداق هذه الأخبار كلها، دون أن يكون عليها أيّ شاهد من قبل، من حس أو عقل أو أيّ بيّنة من البيّنات.
فمن النوع الأول قول الله عزّ وجلّ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ (الروم: 1 و 2).