يتعلق بطبائع هذه الحروف ووجه اتّساقها مع بعضها، وما يتعلق بالعلوم المستخرجة منها والدلالات المشيرة إليها، حتى غدت هذه الفواتح مصدر علم قائم برأسه من علوم القرآن. وإنما اندفع العلماء الباحثون إلى استخراج كل ذلك والبحث فيه بسبب ما يكتنفها من الغرابة والغموض الحاملين على النظر والفكر.
وإنما يأتي الكشف والإبداع من وراء الحاجة وضيقها. وإنما يقع الخمول والبلادة من الشعور بالاستغناء والكفاية.
والإعجاز القرآني في جملته، قائم على البحث والنظر في أمور منها الخفي والجليّ، ومنها الدقيق والأدق، واللطيف والألطف، وإلا فكيف تنبع المعاني للجملة الواحدة من وراء بعضها، وكيف تأتي الدهشة لها إذا كان جميعها من الظهور بحيث تنكشف لكل قارئ وناظر مهما تفاوتت درجة العلم ورتبة الفهم؟
واعلم أننا إنما نصدر في هذا الذي نقول، عن المذهب الذي تمسك به جمهور الباحثين من أن ما قد يوجد في القرآن من المبهم أو المتشابه يمكن للراسخين في العلم أن يفهموا منه فهما صحيحا ويقعوا منه على علم، حاشا المغيبات التي أشار القرآن إليها أو تحدّث عن طرف منها وأبهم منها طرفا آخر.
ونقول في هذا ما قاله ابن قتيبة في كتابه، تأويل مشكل القرآن:
[ولسنا ممّن يزعم أن المتشابه في القرآن لا يعلمه الراسخون في العلم.
وهذا غلط من متأوليه على اللغة والمعنى. ولم ينزل الله شيئا من القرآن إلا لينفع به عباده ويدلّ به على معنى أراده. فلو كان المتشابه لا يعلمه غيره، للزمنا للطاعن مقال وتعلق علينا بعلّة.
وهل يجوز لأحد أن يقول: رسول الله لم يكن يعرف المتشابه وإذا جاز أن يعرفه مع قول الله تعالى وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ جاز أن يعرفه الربانيون من الصحابة، فقد علم عليّا التفسير ودعا لابن عباس فقال: اللهمّ علّمه التأويل وفقهه في الدين].