ثم قال ابن قتيبة:
[وبعد فإنّا لم نر المفسرين توقفوا عن شيء من القرآن فقالوا: هذا لا يعلمه إلا الله، بل أمرّوه كله على التفسير، حتى فسروا الحروف المقطعة في أوائل السور مثل: الر،
وحم، وطه، وأشباه ذلك. فإن قال قائل: كيف يجوز في اللغة أن يعلمه الراسخون في العلم والله تعالى يقول: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ وأنت إذا أشركت الراسخين في العم انقطعوا عن يَقُولُونَ وليس هاهنا واو نسق توجب للراسخين فعلين، وهذا مذهب كثير من النحويين في هذه الآية، ومن جهته غلط قوم من المتأولين- قلنا له: إن يَقُولُونَ هاهنا بمعنى الحال، كأنه قال: والراسخون في العلم قائلين: آمنّا به. ومثله في الكلام: لا يأتيك إلا عبد الله وزيد يقول: أنا مسرور بزيارتك، يريد لا يأتيك إلا عبد الله وزيد قائلا أنا مسرور بزيارتك] [1].
وأما الإبهام في النوع الثاني: وهو الجمل المفهومة من حيث ظاهر دلالتها وتركيبها، ولكن فيها إبهاما من حيث تعيين الزمن أو تعيين الأسماء أو نكارة المتحدّث عنه وغرابته- فمردّ ذلك إلى أحد أسباب ثلاثة:
السبب الأول: عدم تعلق أي غرض بتفصيله والكشف عنه كالذي يكون في مساق ذكر بعض القصص والأحداث، من إبهام أسماء الأشخاص وعدم تعيين الأمكنة أو الأزمنة المتعلقة بها. فهذه القصص والأحداث إنما تساق للاتعاظ بها وأخذ العبرة منها. وتحقيق ذلك يتوقف على عرض الجانب الذي يحمل معنى العظة والعبرة، دون غيره، مما يشتت الذهن عن المطلوب ويبعد المتأمل عن القصد. ولذلك لم يتعلق الغرض القرآني بالكشف عن اسم ولدي آدم وهويتهما في الآية المذكورة، ومن أجل ذلك أيضا يقوم أسلوب القصة في القرآن على توجيه القارئ إلى مكان العبرة منها وتحويل ذهنه عن اللحاق بجزئياتها وهوامشها التاريخية المجردة. وسنفصّل القول في ذلك إن شاء الله عند الحديث عن القصة في القرآن. [1] تأويل مشكل القرآن: 73 و 74.