تمهيد:
إن البيان بلحنه وخطابه، وإشارته ودلالته، وحفزه - وبلاغته، وتأثيره في النفوس، وإذكاءِ روح اليقظة فيها وتحميسها على الإقدام أو الإحجام عن شيء مّا، دون أن يمارس عليها ذلك بقوة السلطان، ولا ببريق السيوف ولا يفتقر في وجوده إلى الاستدلال، لأنه أمر وجداني يحس به المرء من نفسه، ولا يطيق درأه، والوجدانياتُ اضطراريات، فمن يبحث عن دليل وجودها فهو معاكس للفطرة، منكر لأمر يجده من نفسه، ويشعر به من داخلته.
وليس يصح في الأذهان شيء ... إذا احتاج النهار إلى دليل
والبيانُ له صولة على النفوس، ويدخل إليها من منحنياتها العديدة بغير استئذان، ويفعل بها ما يفعله السحر بالمسحور، ولذا مدَحه النبي صلى الله عليه وسلم وذمَّه، لاعتبارين مختلفين، وقصدين متغايرين: مدحه بقوله في حديث ابن عمر: " إن من البيان لسحرا" [1] وذمه بقوله من حديث أم سلمة: " إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أبلغُ بحجته من بعض، فمن قضيت له بحق أخيه، فإنما أقطع له قطعة من النار فلا يأخذها" [2] .
وعقل الفقهاء عن رسول الهدى أنه مدح البيان، إذا كان لقصد صحيح، وذمَّه إذا كان لغرض فاسد، وذاك يدل على أنه ليس بمذموم ولا ممدوح [1] أخرجه البخاري في النكاح - الفتح - 9/109/ وفي الطب 10/ 247 عن ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا، فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من البيان لسحرا ".
وفي لفظ في الموطأ - 2/ 986 / " إن بعض البيان لسحر". [2] سيأتي تخريجه وتفصيله في ص – 36.