وكيف يُذَم البيان وقد امتن الله به على عباده حيث قال: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ, عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن3-4] [1] .
قلت: وهو كلام صحيح، فالبيان فيه المذموم والممدوح كما تقدم، ولفظ الحديث في الموطأ دال على هذا التقسيم.
وإذا كان البيان بهذه المنزلة، فلا ريب أنه بمنزلة عظيمة، فبه يبلَّغ الوحي الإلهي إلى الناس، وبطلاوته ينساب إلى أفئدتهم، وعلى قوة أثره يعوَّل في تفنيد الشبهات، وقمع الشهوات، وفَتِّ المأْفُوكات وإزاحةِ اللبس عن الآي البينات.
ومن الاهتبال بالبيان وإحلاله منزلة عالية، أسمى الله تعالى كتابه بيانا في قوله: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:138] وأسمى نبيه مبينا في قوله:
{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل: 64] وقد أُوتي صلى الله عليه وسلم من البيان والفصاحة ذروتهما، وله فيهما أفنانٌ ومذاهبُ، لا ترتقي مصاقِعُ البلغاء إلى عليائها، ولا تطمح أن تتبوأ أعاليها، وحسبها أن تُطرِق لبيانه، وأن تتسمع لبلاغته، وأن تتلمس توجيهها، وإثارةَ غرائبها، وإدراك معانيها.
إنه في بيانه لَإمام ... حارَ في درْك غوره البلغاء [1] الفتح 10/248.