واعلم أنَّ مَحَلَّ الخلافِ [1] فيما إذا أُلقيت في الماءِ تُمَيراتٌ حتى صار حلوًا رقيقًا غير مطبوخ ولا مُسْكر، فإن أَسكر أو طبخ فلا خلاف في عدم الجواز كما في «المبسوط». وفي «البحر» نقلًا عن قاضيخان: أن الإِمام رجع عنه إلى مذهب الجمهور، والطحاوي أيضًا تركه ولم ينتصر للمذهب المرجوع عنه، وأخرج له الترمذي حديثًا، وأبو داود، إلا أنه تكلم فيه بوجوهٍ كلها مدفوع، منها أن في إسناده أبو زيد وهو مجهول. ودفع بأنه مولى عمرو بن حُرَيْث رَوَى عنه راشد بن كَيسان العبسي وأبو روق، كما صرَّح به ابن العربي، مع وُرُوده عن أربعةَ عشرَ طريقًا بسطها العيني في «شرح البخاري». ومنها أن ابن مسعود رضي الله عنه لم يكن في تلك الليلة، ودفع بأن ليلة الجن متعددة، كما في «آكام المرجان في أحكام الجان» والمشهورة منها ما في القرآن، وهي الدائرة على الألسنة، فأراد بالنفي كونه في تلك الليلة خاصة.
وعند الترمذي في باب كراهية ما يُسْتنجى به، قال أبو عيسى: وقد روى هذا الحديث إسماعيلُ بن إبراهيم وغيره عن داود بن أبي هند، عن الشَّعْبي عن علقمة، عن عبد الله أنه كان مع النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليلة الجن الحديثَ بطوله. وهذا صريحٌ في كونه في واحدٍ منها. ثم إن الزيلعي أخرج طُرُقَ هذا الحديث، وفي سنده عليُّ بن زيد بن جُدْعان، وأخرج عنه مسلم مقرونًا مع الغير، واتفقوا على أنه صدوق إلا أنه سيِّىء الحِفْظ. قال ابن دقيق العيد: إنه أحسنُ من حديث أبي زيد، ولم أَرَ أحدًا من المحدِّثين صحَّح حديثًا من أحاديث الوضوء بالنبيذ.
وقد مرَّ ابن تيمية على تلك المسألة في «منهاج السنة» [2] وتكلم كلامًا لطيفًا جدًا، ورأيتُ [1] وقال الحسن: جاز الوضوء بالنبيذ، وقال الأوزاعي: جاز بسائر الأنبذة، وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه كان لا يرى بأسًا بالوضوء بنبيذ التمر - وقال عِكْرِمَة: النبيذ وضوءُ مَن لم يجد الماء، وقال إسحاق: النبيذ الحلو أحبُّ إليَّ من التيمم، وجمعُهُما أحبُّ، اهـ. كذا في "عُمدة القاري"، وقال الترمذي: وقد رأى بعضُ أهل العلم الوضوءَ بالنبيذ، منهم سُفْيان وغيره اهـ. [2] قلت: وهذا نصُّ عبارتِهِ في "المنهاج": وقول هذا الرافضيّ: وإباحة النبيذ مع مشاركته الخمر في الإسكار احتجاج منه على أبي حنيفة رحمه الله تعالى بالقياس، فإن كان القياس حقًا بطل إنكاره له، وإن كان باطلًا بطلت الحجة. ولو احتج عليه بقول النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ مُسْكرٍ خمرٌ، وكُلُّ خمرٍ حرام" لكان أجود. وأما الوضوء بالنبيذ فجمهور العلماء يُنْكرونه. وعن أبي حنيفة رحمه الله تعالى فيه روايتان أيضًا. وإنما أخذ ذلك لحديث رُوي في هذا الباب حديث ابن مسعود وفيه: "تمرة طيبة وماء طهور". والجمهور منهم يُضَعِّف هذا الحديث ويقولون: إن كان صحيحًا فهو منسوخٌ بآية الوضوء، وآية تحريم الخمر، مع أنه قد يكون لم يَصِر نبيذًا وإنما كان باقيًا لم يتغير، أو تغيَّر تغيرًا يسيرًا، أو تغيرًا كثيرًا مع كونه ماءً على قول مَنْ يُجيزُ الوضوء بالماء المضاف، كماء الباقلاء، والحِمَّص، ونحوهما، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى، وأكثر الروايات عنه، وهو أقوى في الحجة من القول الآخر، فإِن قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] نكرةٌ في سياق النفي فيعُمُّ ما تغير بإِلقاء هذه فيه، كما يعم ما تغير بأصل خِلْقته، أو بما لا يمكن صونه عنه، إذ شمول اللفظ لهما سواء، كما يجوز التوضؤ بماء البحر وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: أنتوضأ من ماء البحر، فإِنا نركبُ البحرَ ونحمل معنا الماء القليل فإن توضأنا به عَطِشنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هو الطَّهور ماؤه والحِلُّ مَيْتَتُه".