روايةً لم أر أحدًا منهم يتمسك بها: أخرجها الزَّيْلعي [1] عن الدارقطني، وفي إسناده سَهْوٌ من الكاتب في موضعين:
= قال الترمذي: حديث صحيح، فماء البحر طهورٌ مع كونه في غاية الملوحة، والمرارة، والزُّهُومة، فالمتغيرات بالطاهرات أحسن حالًا، لكن ذاك تغييرٌ أصلي وهذا طارىء، وهذا الفرق لا يعود إلى اسم الماء، ومن اعتبره جَعَل مقتضى القياس أنه لا يتوضأ بماء البحر ونحوه، ولكن أُبيح لأنه لا يمكن صونه عن المغيرات، والأصل ثبوتُ الأحكام على وَفْق القياس لا على خلافه، فإن كان هذا داخلًا في اللفظ دخل الآخر، وهذه دلالةٌ لفظيةٌ لا قياسية، حتى يعتبر فيها المشقة وعدمها. انتهى. هذا ما وجدته في كتابه، فإن كان مرَّ عليه في موضع آخر أبسط منه فليرجع إليه، فإني لم أجد الآن إلَّا ما ذكرته. [1] واعلم أن المسألة لما صارت مَطْعَنًا للخواصِّ والعوام، وكان شيخي يذكر لها ما لا يذكره غيرُه، ولكنه كان يجمل في بيانها على عادته، وكنت مشغوفًا بأن أسمع منه في ذلك أبسط مما يذكره لنا في درسه، فسألته عنها يومًا وكان عليلًا ففصلها لي شيئًا، ولم أجترىء على أن أكرر عليه السؤال فأُمْله، فلم أزل أراجع إليه بصري كرةً بعد كرة حتى ألقى اللهُ في صدري ما أُلقي عليك منه، وبدا لي أن أفصِّله، فها أنا أفصله وأحسَبه أن يكون ذلك هو مرادَ الشيخ رحمه الله، ولا أجزم به، فإن كان حقًا فذلك من فضَالته، وإن كان خطأ فمِن نفسي.
واعلم أن العلامةَ الزَّيلَعي أخرج لحديث ابن مسعود رضي الله عنه سبعة طُرُق: الأول: ما عند أحمد رضي الله عنه، والدارقطني في "سننه" عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن حمَّاد بن سَلَمة، عن علي بن زيد، عن أبي رافع عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلَة الجِنّ: "أمعك ماءٌ؟ قال: لا، قال: أمعك نبيذ؟ أحسبه قال: نعم، فتوضأ به". انتهى، قال الدارقطني: عليّ بن زيد ضعيف، وأبو رافع لم يثبت سماعُه عن ابن مسعود رضي الله عنه، انتهى، قال الشيخ تقي الدين في "الإمام": وهذا الطريق أقربُ من طريق أبي فَزارة وإن كان طريق أبي فَزارة أشهر، فإن عليّ بن زيد وإن ضَعفُ فقد ذُكر بالصدق، قال: وقول الدَّارقطني: وأبو رافع لم يثبت سماعُه عن ابن مسعود رضي الله عنه لا ينبغي أن يُفْهم منه أنه لا يمكن إدراكه وسماعه منه، فإن أبا رافع الصائغ جاهليٌ إسلامي، قال أبو عمر بن عبد البر في "الاستيعاب": هو مشهور من علماء التابعين إلى أن قال: ومَنْ كان بهذه المثابة فلا يمتنع سماعُه من جميع الصحابة اللهم إلّا أن يكون الدارقطني اشترط في الاتصال ثبوتَ السماع ولو مرةً وقد أطنب مسلمٌ في الكلام على هذا المذهب.
ثم أُخرج له طريقًا آخر عند الدارقطني عن معاوية بن سلَّام، عن أخيه زيد، عن جده أبي سلّام، عن ابن غَيْلان الثقفي: أنه سمع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه الحديث، قال الدارقطني وابن غيلان هذا مجهول قيل اسمه عمرو وقيل: عبد الله بن عمرو بن غيلان. انتهى. ورواه أبو نعيم في كتاب "دلائل النبوة" من الطبراني بسنده إلى معاوية عن عمرو بن غَيلان، والله أعلم.
قلت: وكان الشيخ رضي الله عنه يحسِّن هذين الإِسنادين وإن لم يحكم به الزيلعي. أما تحسين الطريق الأول، فقد ظهر من كلام الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد رضي الله عنه واندفع به نظر الدارقطني. أما تحسين الطريق الثاني فلا بد له من النظر أولًا في طريقه التام الذي ساقه الدارقطني، وهذه صورة إسناده: حدثني محمد بن أحمد بن الحسن حدثنا: إسحاق بن إبراهيم بن أبي حسان حدثنا هاشم بن خالد الأزرق: حدثنا الوليد: حدثنا معاوية بن سلَّام عن أخيه زيد، عن جده أبي سلام، عن فلان بن غَيْلان الثقفي إلخ.
وللمُحَدِّثِين فيه كلام من وجهين، الأول: من جهة هاشم بن خالد، والثاني: من جهة الثقَفي، قال الشيخ رضي الله عنه: أما هاشم ففيه سَهْوُ الناسخ وهو بعد التصحيح هشام بن خالد، وذلك لأن الرواة إنما يُعْرفُون بسلسلة تلامذتهم وشيوخهم، وقد وجدنا أن ما عند الدارقطني سلسلةُ للتلامذة والشيوخ، وقد وجدنا تلك السلسلة بعينها عند =