وهذا الذي قالوه خطأ؛ فإن المعلوم من عادة العرب: أنها لا تضع هذا لنفي الذات في كل مكان؛ وإنما تورده مبالغة فيذكر الذات ليحصل لها ما أرادت من المبالغة.
وقال آخرون: بل يحمل على نفي الذات وسائر أحكامها، ويخص الذات بالدليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكذب.
وقال قوم: لم تقصد العرب إلى نفي الذات، ولكن لنفي أحكامها ومن أحكامها الكمال والإجزاء، فيحمل اللفظ على العموم منها.
وأنكر هذا بعض المحققين؛ لأن العموم لا يصح دعواه فيما يتنافى، ولا شك أن نفي الكمال يشعر بحصول الإجزاء، فإذا قُدِّر الإجزاء منتفيًا بحق العموم، قُدِّر ثابتًا بحق إشعار نفي الكمال بثبوته، وهذا يتناقض وما يتناقض لا يحمل الكلام عليه.
وصار المحققون إلى التوقف بين نفي الإجزاء ونفي الكمال، وادعوا الاحتمال من هذه الجهة، لا مما قاله الأولون.
فعلى هذه المذاهب يخرج قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" [1]. [1] قال الشوكاني في "نيل" الأوطار (2/ 235):
النفي المذكور في الحديث يتوجه إلى الذات ان أمكن انتفاؤها، وإلا توجه إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة لا إلى الكمال، لأن الصحة أقرب المجازين والكمال أبعدهما، والحمل على أقرب المجازين واجب، وتوجه النفي ههنا إلى الذات ممكن كما قال الحافظ في "الفتح"، لأن المراد بالصلاة معناها الشرعي لا اللغوي لما تقرر من أن ألفاظ الشارع محمولة على عرفه لكونه بعث لتعريف الشرعيات لا لتعريف الموضوعات اللغوية، وإذا كان المنفي الصلاة الشرعية استقام نفي الذات؛ لأن المركب كما ينتفي بانتفاء جميع أجزائه ينتفي بانتفاء بعضها، فلا يحتاج إلى اضمار الصحة ولا الإجزاء ولا الكمال كما روي عن جماعة؛ لأنه إنما يحتاج إليه عند الضرورة، وهي عدم إمكان انتفاء الذات، ولو سلم أن المراد هنا الصلاة اللغوية فلا يمكن توجه النفي إلى ذاتها لأنها قد وجدت في الخارج كما قاله البعض لكان المتعين توجيه النفي إلى الصحة أو الإجزاء لا إلى الكمال.