يسمع البيت الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، وكان من آثار ذلك أن قلَّ عند الكوفيين التأويل والتقدير، والقول بالندرة والشذوذ.
وكان من آثار ذلك أيضًا أن عقد الكوفيون كثيرًا من أصولهم وأحكامهم على جميع القراءات القرآنية، المتواترة والشاذة، ولم يلجئوا إلى التأويل الذي لجأ إليه البصريون، ومما يدل على أن الكوفيين يقيسون على البيت الواحد ما نقله السيوطي عن الأندلسي في (شرح المفصل) من قوله: "الكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا، وبوَّبوا عليه بخلاف البصريين، ومعنى ما ذكره السيوطي نقلًا عن الأندلسي أن الكوفيين يجعلون البيت الواحد دليلًا على القاعدة، ولو كان مخالفًا للأصول، بل إنهم كانوا يقيسون على شطر بيت لا يُعرف له بقية أو قائل، كمذهبهم في جواز دخول اللام في خبر لكن، كما يجوز في خبر إن مستشهدين بقول الشاعر:
...... ..... ..... ...... ....... ... ولكنني من حبها لكميد
مع نص أكثر العلماء على أن هذا الشاهد لا يعرف قائله، ولا تعرف له تتمة، ولا سوابق ولا لواحق. أما البصريون: فإنهم يُحافظون على القواعد، ويبقون الأصول على حالها، ويحملون البيت النادر على القلة، أو الشذوذ، أو الضرورة، أو مخالفة الأصول. ولذلك كانت قواعدهم أضبط، وأصولهم أتقن، وليس هذا بعيب في منهج البصريين؛ فقد أرادوا التثبت في قبول المادة اللغوية التي يبنون عليها قواعدهم، ولذلك كان مما افتخر به البصريون على الكوفيين أن قالوا: نحن نأخذ اللغة من حَرَشَة الضِّبَاب، وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها من أكلة الشواء وباعة الكواميخ. وحرشة الضباب أي: صائدو الضباب، والضباب: