إن هذه النتيجة التي انتهى إليها تدل على مدى اعتداده بالعلة النحوية، واستناده إلى وثاقتها. وقد أوضح من بداية الأمر أنه إنما يعني علل الحذاق المتقنين من النحويين، لا علل ألفافهم المستضعفين، فإن شأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة. وكان يرى أن العلة أصيلة في نفوس العرب، وقد أصابت من قوة النظر عندهم وسلامة الحس اللغوي فيهم حظًّا وافرًا يقول: "سألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف الجوثي التميمي، تميم جوثة، فقلت له: كيف تقول: ضربت أخوك؟ فقال أقول: ضربت أخاك، فأدرته على الرفع يعني: حاولت إلزامه إياه فأبى، وقال: لا أقول: أخوك أبدًا، قلت: فكيف تقول: ضربني أخوك؟ فرفع، فقلت: ألست زعمت أنك لا تقول: أخوك أبدًا، فقال: أيش هذا اختلفت جهتا الكلام".
قال صاحب (إرشاد الأريب): "فهل قوله -يعني: قول الجوثي: اختلفت جهتا الكلام، إلا كقولنا: هو الآن فاعل، وكان في الأول مفعولًا، فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم، وإن لم تقطع به عبارتهم". ويقول ابن جني: "فإن قلت: فما تنكر أن يكون ذلك شيئًا طُبعوا عليه وأُجيئوا إليه من غير اعتقاد منهم لعلله، ولا لقصد من القصود التي تنسبها إليهم في قوانينه وأغراضه، بل لأن آخرًا منهم حذا أي: تبع وسلك على ما نهج الأول يعني: على ما سار عليه الأول فقال به، وقام الأول للثاني لكونه إمامًا له فيه مقام من هدى الأول إليه، وبعثه عليه ملكًا كان أو خاطرًا، قيل: لن يخلو ذلك أن يكون خبرًا رُوسِلُوا به، أو تيقظًا نُبهوا على وجه الحكمة فيه، فإن كان وحيًا أو ما يجري مجراه؛ فهو أنبه له، وأذهب في شرف الحال به، لأن الله سبحانه إنما هداهم لذلك، ووقفهم عليه؛ لأن في طباعهم قبولًا له، وانطواء على صحة الوضع فيه؛ لأنهم مع ما قدمناه عنهم من ذكر كونهم عليه من لطف الحس وصفائه، ونصاعة جوهر