الفكر ونقائه، لم يؤتوا هذه اللغة الشريفة المنقادة الكريمة إلا ونفوسهم قابلة لها، محسة لقوة الصنعة فيها، معترفة بقدر النعمة عليهم بما وهب لهم منها".
فإذا انتقلنا إلى محاولة التعرف على رأي عالم آخر في مدى وثاقة العلة النحوية، وهو أبو سعد علي بن مسعود كمال الدين الفرخان الذي عاش -كما قال محقق كتابه على وجه التقريب- في أواخر القرن السادس ومنتصف القرن السابع، وجدناه يحتفي بالعلة النحوية غاية الاحتفاء، ويهتم بها كمال الاهتمام، فلا تكاد صفحة من صفحات كتابه (المستوفى في النحو) تخلو من حديث عن العلة، ويقول في مقدمة كتابه: "وأنت إذا استقريت أصول هذه الصناعة؛ علمت أنها في غاية الوثاقة، وإذا تأملت عللها؛ عرفت أنها غير مدخولة ولا متسمح فيها.
فأما ما ذهب إليه غفلة العوام من أن علل النحو تكون واهية سخيفة، ومتمحلة بالوضع ضعيفة، واستدلالهم على ذلك بأنها قد تكون هي تابعة للوجود لا الوجود تابعًا لها، فبمعزل عن الحق، وذلك أن هذه الأوضاع والصيغ التي في أيدينا اليوم إن كنا نحن نستعملها، فليس ذلك على سبيل الابتداء والابتداع، بل على وجه الاقتداء والاتباع، ولا بد فيها من التوقيف إما مفردًا، وإما مع الاصطلاح على ما تحقق في غير هذا من العلوم. فنحن إذا صادفنا الصيغ المستعملة والأوضاع المحصلة بحال ما من الأحوال، وعلمنا أنها كلها أو بعضها من وضع حكيم تعالى وجل، تطلبنا بها وجه الحكمة لما خُصص لتلك الحال من بين أخواتها، فإذا حصلنا عليها فذلك غاية المطلوب، أترى أن أحدًا يُنكر الفائدة في علل التشريح المثبتة في كتب الطب التي شأنها شأن هذه، وليس إذا جهلنا علة لمسألة واحدة؛ أوجب ذلك أن نجهل ما كنا حصلناه قبل أو أحطنا به بإذن الله تعالى".