ثم استغل ذلك التحريف والضلال في المسيحية ليشهِّر بالدين، وبدلًا من أن يبحث عن الدين الحق اتهم الدين بأنه أفيون الشعوب ووسيلة الاستغلال، وما كان له من طريق بعد ذلك إلا أن يؤمن بالمادية، فيعتبرها هي الأول وهي الآخر ولا شيء قبلها ولا شيء بعدها، وكان عليه أن يبين كيف يتحرك هذا الكون ما دام قد كفر بالله، فاخترع وهم الصراع بين الأضداد كتفسير لحركة الكون والحياة، أو ما يسمى بالجدلية التي ابتدعها "هيجل"، وهكذا سميت دعوى "ماركس" بالمادية والجدلية، فماركس يعلي من شأن المادة ويعتبرها أصل حياة، ويعتبر أنها هي المحرك الأول لها؛ فأعطى قوة الإنتاج خاصية التطور الديالكتيكي الذاتي، فهي قاموس الكون كله، وأعطاها حتمية معناها ضرورة سيادتها، وأن معارضتها لن توقفها، ولن تكون إلا تعبيرًا عن الجهل والعقوق.
يقول الأستاذ العقاد: "لقد رأيت أناسًا يُبطلون الأديان في العصر الحديث باسم الفلسفة المادية، فإذا بهم يستعيرون من الدين كل خاصة من خواصه، وكل لازمة من لوازمه؛ ولا يستغنون عما فيه من عناصر الإيمان والاعتقاد التي لا سند لها غير مجرد التصديق والشعور، ثم يجردونه من قوته التي يبثها في أعماق النفس لأنهم اصطنعوه اصطناعًا، ولم يرجعوا به إلى مصدره الأصيل، فالمؤمنون بهذه الفلسفة المادية يطلبون من شيعتهم أن يكفروا بكل شيء غير المادة، وأن يعتقدوا أن الأكوان تنشأ من هذه المادة في دورات متسلسلة تنحل كل دورة منها في نهايتها؛ لتعود إلى التركيب في دورة جديدة.
ويطلبون منهم أن ينتظروا النعيم المقيم على هذه الأرض متى صحت نبوءتهم عن زوال الطبقات الاجتماعية، فإن زالت الطبقات الاجتماعية في هذه السنة أو بعدها ببضع سنوات؛ فتلك بداية الفردوس الأبدي الذي يدوم ما دامت الأرض والسموات، وتنتهي إليه أطوار التاريخ كما تنتهي بيوم القيامة في عقيدة المؤمن بالأديان.