ثم أجاب الشاطبي عن قول بعضهم بأن ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - إقامة الحد على المنافقين كان بسبب خشيته من قول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه. فقال: " فالعلة أمر آخر لا ما زعمت، فإذا عُدم ما علل به فلا حرج. لأنا نقول: هذا من أدل الدليل على ما تقرر، لأن فتح هذا الباب يؤدي إلى أن لا يحفظ ترتيب الظواهر، فإن من وجب عليه القتل بسبب ظاهر، فالعذر فيه ظاهر واضح، ومن طلب قتله بغير سبب ظاهر، بل بمجرد أمر غيبي ربما شوش الخواطر، وران على الظواهر، وقد فهم من الشرع سد هذا الباب جملة ألا ترى إلى باب الدعاوي المستند إلى أن "البينة على المدعي، واليمين على من أنكر". (1)
وهذه القاعدة في تطبيق أحكام الشريعة عامة في كل أحد، حتى عمّت نبينا - صلى الله عليه وسلم -، نعم "لم يُستثن من ذلك أحد، حتى إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - احتاج في ذلك إلى البينة، فقال: من يشهد لي؟ حتى شهد له خزيمة بن ثابت، فجعلها الله شهادتين، فما ظنك بآحاد الأمة، فلو ادعى أكبر [2] الناس على أصلح الناس، لكانت البينة على المدعي، واليمين على من أنكر، وهذا من ذلك، والنمط واحد، فالاعتبارات الغيبية مهملة بحسب الأوامر والنواهي الشرعية". (3)
لذا فإن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدل دينه فاقتلوه)). [4] كما يقول الحافظ ابن حجر: " هو عام، يُخَص منه من بدله في الباطن ولم يثبت عليه ذلك في الظاهر، فإنه تجرى عليه أحكام الظاهر ... وإظهار الإيمان يحصن من القتل، وكلهم أجمعوا على أحكام الدنيا على الظاهر، والله يتولى السرائر". (5)
وشاهد آخر على إجراء الأحكام في الدنيا على الظاهر في حديث أسامة لما خرج في سرية، فأدرك رجلاً فقال: لا إله إلا الله، يقول أسامة:
(1) رواه البخاري معلقاً في باب ما جاء في البينة على المدعي، ورواه الترمذي ح (1341)، وصححه الألباني في أرواء الغليل ح (1938). [2] هكذا في الأصل، والأصوب: [ادعى أكذب].
(3) الموافقات (2/ 206). [4] رواه البخاري ح (3017).
(5) فتح الباري (12/ 273 - 274).