«أول ما بدئ به رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد قبل أن ينزح إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال اقرأ:
قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال اقرأ، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: اقرأ»، ويصحح أيضا الحاكم في مستدركه، والبيهقي في دلائله على اختلاف في اللفظ.
والقول الثاني: أن أول ما نزل من القرآن إطلاقا يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ويستدل أصحابه بما رواه الشيخان عن أبي سلمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: سألت جابر بن عبد الله: أي القرآن أنزل قبل؟ قال: «يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ» أو «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ» فقال: أحدثكم ما حدثنا به رسول الله - صلّى الله عليه وسلم -: «إني جاورت بحراء، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت الوادي، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، ثم نظرت إلى السماء فإذا هو - يعني: جبريل - فأنزل الله يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ».
ولكن هذه الرواية تحتمل أن تكون حديثا عما نزل بعد فترة الوحي، وذلك لرواية أخرى للشيخين عن سلمة عن جابر أيضا عن النبي - صلّى الله عليه وسلم - فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصري قبل السماء، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثيت حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلي، فقلت: زملوني فدثروني فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ، قُمْ فَأَنْذِرْ، وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ فيبين من هذه الرواية أن جابر استند في الحكم بأن أول ما نزل من القرآن سورة المدثر. إلى ما سمعه من رسول الله - صلّى الله عليه وسلم - وهو يحدث عن فترة الوحي، وكأنه لم يسمع بما حدث به رسول الله عن الوحي قبل فترته ومن نزول الملك على الرسول في حراء بصدر سورة اقرأ، ولعل السؤال كان أول سورة كاملة أنزلت من القرآن، فظاهر من كلام الرسول - صلّى الله عليه وسلم - أنها ليست أول مرة يأتيه فيها الملك «فإذا الملك الذي جاءني بحراء».