في الحديث أنه عليه السلام رأى رجلا قائما في الشمس فقال: "ما بال هذا نذر أن لا يستظل ولا يتكلم ولا يجلس ويصوم " فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مره فليجلس وليتكلم وليستظل وليتم صومه " قال مالك أمره أن يتم ما كان لله عليه فيه طاعة ويترك ما كان عليه فيه معصية ...
وكليه قوله: " كل بدعة ضلالة " شاهدة لهذا المعنى والجميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد وهي خاصية المحرم ...
وأما كلام العلماء فإنهم وإن أطلقوا الكراهية في الأمور المنهي عنها لا يعنون بها كراهية التنزيه فقط وإنما هذا اصطلاح للمتأخرين حين أرادوا أن يفرقوا بين القبلتين، فيطلقون لفظ الكراهية على كراهية التنزيه فقط ويخصون كراهية التحريم بلفظ التحريم والمنع وأشباه ذلك، وأما المتقدمون من السلف فإنهم لم يكن من شأنهم فيما لا نص فيه صريحا أن يقولوا هذا حلال وهذا حرام، ويتحامون هذه العبارة خوفا مما في الآية من قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} وحكى مالك عمن تقدمه هذا المعنى. فإذا وجدت في كلامهم في البدعة أو غيرها أكره هذا ولا أحب هذا وهذا مكروه وما أشبه ذلك فلا تقطعن على أنهم يريدون التنزيه فقط، فإنه إذا دل الدليل في جميع البدع على أنها ضلالة فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنزيه ...
وأما ثالثا فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة دقت أو جلت وجدناها مخالفة للمكروه من المنهيات المخالفة التامة، وبيان ذلك من أوجه أحدها أن مرتكب المكروه إنما قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متكلا على العفو اللازم فيه ورفع الحرج الثابت في الشريعة فهو إلى الطمع رحمة الله أقرب وأيضا فليس عقده الإيماني بمتزحزح؛ لأنه يعتقد المكروه مكروها كما يعتقد الحرام حراما وإن ارتكبه فهو يخاف الله ويرجوه والخوف والرجاء شعبتان من شعب الإيمان، فكذلك مرتكب المكروه يرى أن الترك أولى في حقه من الفعل وأن نفسه الأمارة زينت له الدخول فيه، ويود لو لم يفعل وأيضا فلا يزال إذا تذكر منكسر القلب طامعا في الإقلاع سواء عليه أخذ في أسباب الإقلاع أم لا. ومرتكب أدنى البدع يكاد يكون على ضد هذه الأحوال