فالتركيز فى الأولى على المجئ من أقصى المدينة، بما يوحى
بأهمية الأمر الذى حفز الرجل على قطع تلك المسافة الكبيرة، والتركيز فى الثانية
على الرجل ذاته، بما يوحى باهتمامه الخاص بالأمر، وأنه حريص على سلامة موسى.
فالفرق بينهما لم يعدو التقديم والتأخير.. ومع ذلك كان
للثانية من الدلالة ما ليس للأولى.
خذ مثالا آخر، وهو ما جاء في القرآن عن اليهود من أنهم {
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}(النساء: 46)في آية.. وفي آية أخرى ورد:{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ
مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ }(المائدة: 41)
وسر الاختلاف بينهما يرجع إلى أن الأولى تشير إلى تحريفهم
لكلام الله، وما فى ذلك من لؤم والتواء، أما الثانية فتشير إلى تجرؤهم على الله،
بأن يقرر الأمر فيقرروا غيره من بعد تقرير الله له، وما فى ذلك من وقاحة وتمرد على
الله.
وفى مثل تلك المواضع يكون للتنويع دلالة خاصة تضاف إلى مجرد
التنويع، الذى هو فى ذاته هدف مقصود0
قلت: فهمت هذا.. وربما لا أجادلك فيه ولكني أتحدث عن مواضع
يكاد يكون الشبه فيها تاما.. فكيف لا يكون ذلك تكرارا؟
قال: لا.. ليس تكرارا.. ألست ترانا نتحدث كلاما كثيرا له
معاني لا حصر لها ومع ذلك نستخدم حروفا واحدة لا نقوم سوى بتغيير تركيبها.
وهكذا ما يتوهم من تشابه في القرآن.. فهو ليس تشابها، بل
هو تنوع تحتاجه المعاني.. فالموضوع الواحد يعرض مرارا، ولكنه يعرض فى كل مرة
مختلفا عما سبقه نوعا من الاختلاف، فيكون جديدا فى كل مرة، ويكون ـ مع التلاوة
المستمرة للقرآن ـ متجددا على الدوام.
قلت: لم أفهم ما تقصد؟
قال: ألسنا نضع الملح في طعامنا.. بل والزيت والماء
والدقيق.. وأشياء كثيرة في أطعمة