الطريق الذي كان مظلما في عيني.. لم أكن حينها لا في دين
المسيح، ولا في دين محمد.. ولكني مع ذلك كنت أشعر أن خيوطا كثيرة بدأت تتجمع
لتجذبني إلى دين محمد.
ذهبت إلى مكتبي، ففوجئت بوقوف الرجل أمام بابه ينتظرني،
كان ـ بحسب شكله ـ رجلا منشغلا عن نفسه، لا تظهر عليه آثار النعمة التي حدثني عنها
أخي.. وكأنه اكتفى بما لديه من حكمة وعقل عن المال الذي يملكه.
رحبت به، وادخلته مكتبي، وقلت مجاملا له: ها قد جاء حكيم
الإسكندرية أخيرا لزيارتنا.. وليملأنا شرفا وحكمة.
اكتفى بالابتسامة، وقال: الحكمة لا تختص بالإسكندرية..
والعقل لا يختص بأحد من الناس.. العقل نهر جار ممدود بمنابع لا تجف، ليصل لكل
الناس.
قلت: ولكن أكثر الناس يغلقون حنفيات عقولهم ليمتنعوا من
الارتواء بهذا النهر الجاري.
قال: أجل.. وهم لذلك يموتون عطشا.. تموت عقولهم التي هي سر
حياتهم.. وسر وجودهم.. وهم يتعذبون قبل موتهم.. لأنه لا لذة بلا عقل.
قلت: هل جئت تحدثني عن العقل.. أم عن الكتاب المقدس؟
قال: عن كليهما.. عن إخضاع العقل للكتاب المقدس؟ أو إخضاع
الكتاب المقدس للعقل؟
قلت: الكمال في إخضاع العقل للكتاب المقدس.
قال: أجل.. العقل لا بد أن يخضع لشيء في النهاية.. لأنه
مثل مسافر يبحث عن مستقر يستقر فيه.. ويلقي عصا الترحال.
قلت: وذلك المستقر هو الكتاب المقدس.. وحقائق الكتاب
المقدس.. وشرائع الكتاب المقدس.
قال: نعم.. لابد من وجود مقدس يخضع له العقل.. ولكن لا بد
أن يرضى العقل عن هذا المقدس أولا.. وإلا عاش في عناء.