دخلنا.. وما لبثنا حتى صعد المحاضر إلى المنصة.. وقد كان
أول ما بدأه أن قرأ بصوت جميل قوله تعالى:{ وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيراً}(الاسراء:16)
فرحت فرحا شديدا لابتدائه بهذه الآية.. لقد كانت هذه الآية
سهما من السهام التي يسلطها قومي على المسلمين.. فقد كانوا يفهمون منها بأن الله
إذا أراد هلاك قرية بعث رسالة إلى مترفيها، أو بعث فيهم نبيا يطلب منهم أن يفسقوا
فيها لينزل عليهم العذاب، فيدمرهم.
لكن الرجل بدأ يذكر من الأسرار المرتبطة بهذه الآية ما نفى
عنها كل شبهة.. بل ما جعل منها فوق ذلك تضم قواعد مهمة تدل على أسباب سقوط
الحضارات المعبر عنها في القرآن بالقرى.
واسمح لي أن أذكر لك بعض ما ذكره في تلك المحاضرة.
لقد بدأ بذكر ما ورد في كلمة ( الأمر ) من أقوال، وهي
ثلاثة:
الأول: أنه من الأمر، وفي الكلام إضمار، تقديره: أمرنا
مترفيها بالطاعة، ففسقوا، ومثله في الكلام: أمرتك فعصيتني، فقد علم أن المعصية
مخالفة الأمر.
والثاني: كثَّرنا يقال: أمرت الشيء وآمرته، أي: كثَّرته،
ومنه قولهم: مهرة مأمورة، أي: كثيرة النتاج، يقال: أَمِرَ بنو فلان يأمرون أمراً:
إذا كثروا.
فاستنتج من المعنى الأول أن الترف يؤدي لا محالة إلى
الفسوق.. ذلك أن للترف من التسلط على أتباعه ما يمنع من رؤية الحق أو الإذعان له،
وذلك لأن المترف لا يرى من الحياة إل جانبها الجسدي، ولا يرى من جانبها الجسدي إلا
ما يملأ عليه شهواته التي لا تنتهي، فهو في شغل عن عبادة الله أو الاستماع
لأوليائه، ولذلك جاء في القرآن:{ وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَكَذَّبُوا