وهذه الوقائع تثبت قطعيا أن العقل أو الحافظة ليست تلك التي نشعر ونحس بها
فحسب، وإنما هناك أطراف أخرى من هذه الحافظة لا نشعر بها، وهي ذات وجود مستقل، وذات
كيان قائم بنفسه.
قال ألكسيس ـ وهو صديقنا عالم النفس ـ: أجل.. لقد أثبتت التجارب العلمية أن
جميع أفكارنا تحفظ في شكلها الكامل، ولسنا قادرين علي محوها أبدا.
وأثبتت هذه التجارب أيضا أن الشخصية الإنسانية لا تنحصر فيما نسميه
(الشعور)، بل هناك أجزاء أخري من الشخصية الإنسانية تبقي وراء الشعور، يسميها
فرويد: (ما تحت الشعور)، أو (اللاشعور). وهذه الأجزاء تشكل جانبا كبيرا من شخصيتنا،
بل هي الجانب الأكبر منها ؛ ومثلها كمثل جبل من الجليد في أعالي البحار، أجزاؤه
الثمانية مسكنة تحت الماء، علي حين لا يطفو منه إلا الجزء التاسع، وتلك هي ما
نسميه: (تحت الشعور)، الذي يسجل ويحفظ كل ما نفكر فيه، أو ننتويه.
لقد سلم علماء النفس بهذه النظرية بصفة عامة اليوم، ومعناها أن كل ما يخطر
علي بال الإنسان من الخير والشر، ينقش في صفحة اللاشعور، فلا يزول إلي الأبد، ولا
يؤثر فيه تغير الزمان وتقلب الحدثان، ويحدث هذا على رغم الإرادة الإنسانية-طوعا أو
كرها.
علي: لو قارنا هذا الواقع مقرونا إلي نظرية الآخرة لاستطعنا أن نصل إلى
حقيقتها بسرعة، إن هذا الواقع يؤكد بكل صراحة إمكان وجود سجل كامل لأعمال الإنسان
في حيازته، وعندما يبدأ حياته الأخرى، فإن وجوده نفسه سوف يشهد علي الأعمال
والنيات التي عاشها.
لقد نص القرآن الكريم على هذه الحقيقة، قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ
خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (قّ:16)
والأقوال مثل النيات، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو
سخطا؛