لقد توفي عبد الله بن أبي كبير المنافقين، والذي ملأ حياته
بالإيذاء لرسول الله a
بكل صنوف الإيذاء، لكن النبي a كفنه في ثوبه، وأراد أن يستغفر له ويصلي عليه، فقال عمر: أتصلي
عليه وقد نهاك ربك؟ فقال a:(إنما خيرني ربي فقال:﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا
تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ
اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾
(التوبة:80)، وسأزيده على السبعين، وصلى عليه، فأنزل الله تعالى:﴿ وَلا
تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ
إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ﴾ (التوبة:84)، فترك الصلاة عليهم[1].
التفت الحكيم إلى فرانكلين، وقال: أرأيت سموا مثل هذا السمو..
إن هذه القصة تمثل لك نفس هذا العبد الخاضع ، وقد اتخذ من القرآن دستورا يستملي
أحكامه من نصوصه الحرفية، وتمثل لك قلب هذا البشر الرحيم وقد آنس من ظاهر النص
الأول تخييرا له بين طريقين، فسرعان ما سلك أقربهما إلى الكرم والرحمة ، ولم يلجأ
إلى الطريق الآخر إلا بعد ما جاءه النص الصريح بالمنع.
وهكذا كلما درست مواقف الرسول من القرآن في هذه المواطن أو
غيرها ، تجلى لك فيه معنى العبودية الخاضعة ، ومعنى البشرية الرحيمة الرقيقة ؛
وتجلى لك في مقابل ذلك من جانب القرآن معنى القوة التي لا تتحكم فيها البواعث
والأغراض ، بل تصدع بالبيان فرقانا بين الحق والباطل، وميزانا للخبيث والطيب، أحب
الناس أم كرهوا، رضوا أم سخطوا، آمنوا أم كفروا، إذ لا تزيدها طاعة الطائعين ولا
تنقصها معصية العاصين، فترى بين المقامين ما بينهما، وشتان ما بين سيد ومسود،
وعابد ومعبود[2].