وشكا إليه بعض الصحابة الجوع ذات مرة؛ وكشفوا عن بطونهم فإذا
حَجَر قد شدّه كل واحد علَى بطنه، وأراهم a بطنه وقد شدّ عليه حجرَين!
وكان صوته يضعُف أحيانًا من شدة الجوع! وذهب مرة إلَى بيت صاحبه
أبي أيوب الأنصاري وهو جائع؛ فصنع له أبو أيوب طعامًا وقطف له بعض الرُّطَب من
حديقته؛ فلما قدم إليه الطعام أخذ منه خبزًا ووضع عليه شيئًا من اللحم وقال:
ابعثوا به إلَى فاطمة؛ فإنها لم تأكل شيئًا منذ أيام.
وكان يحب بنته وسِبْطَيه حبًّا جمًّا، غير أن حبه لهم لم يحمله
علَى أن يكسوهم لباسًا ناعمًا أو يحلِّي بنته حِلية ثمينة، ورأى فاطمة قد لبست ذات
يوم قِلادة من الذهب جاءها بها زوجها عليّ؛ فقال لها: يا فاطمة؛ أتحبين أن يقال إن
بنت محمد قد لبست طَوقًا من نار؟ فنزعت تلك القِلادة من عنقها؛ واشترت بثمنها
عبدًا وأعتقته.
هذا قوله.. أما عمله: فيدلّ عليه ما رُوِي أن أحد الصحابة دخل
عليه فرآه قد أثَّر الحصير في جسمه الشريف؛ فقال: ألَا نهدي إليك فَرْشًا وثيرًا؟
فأجابه: ما لي ولدنياكم؛ ليس لي إليها حاجة إلَّا كما يستظل الراكب في طريقه
ليستريح ساعة من نهار، ثم يمضي قُدُمًا!
وفي السنة التاسعة للهجرة ـ وكانت رُقعة الدولة الإسلامية قد
امتدت إلَى اليمن والشام، ولا ينفُذ فيها إلَّا أمره ـ حتى إنه لم يكن يملك إلَّا
إزارًا وسريرًا خشنًا لا فَرْشَ له، ووِسادة حشوها لِيف، وقليلًا من الشَّعير، وجِلد
حيوان في ناحية من البيت، وقِرْبة ماء معلّقة علَى وَتَد.
فإذا كان ذلك هو تزهيده الناس في الدنيا؛ فهذا هو عمله الَّذِي
رأيتُم.
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة ترغب في الإيثار،
وسمعتُ كثيرًا من الناس يخطبون في (الإيثار)، ويحثّون الناس عليه.. ولكني لم أر
مثالًا عمليًّا للإيثار في صحيفة حياة واعظ.. الإنسان الوحيد الذي وجدته تحقق
بالإيثار في أعلى درجاته هو محمد..