أنتُم تعلمون مبلغ حُبه لابنته فاطمة، ومع ذلك؛ فإنها كانت تطحن
بيدها حتى مُجّت، وتحمل قِرْبة الماء علَى صدرها حتى اخْضَرّ؛ فجاءته ذات يوم
تسأله خادمة، والإماء يومئذ كثيرة؛ فقال لها: يا فاطمة؛ لم أَفْرُغ بعدُ من حاجات
أهل الصُّفّة؛ فكيف أقضي حاجتك؟
سكت قليلا، ثم قال: لقد رأيت النصوص المقدسة ترغب في الثقة في
الله والتوكل عليه، وسمعتُ كثيرًا من الناس يخطبون في ذلك، ويحثون عليه.. ولكني لم
أر مثالًا عمليًّا لذلك سوى في حياة محمد.
أنتم تعلمون أنه بُعِثَ في أُمّة أُمِّيّة ذات حميّة وأَنَفة
تمنعها أن تسمع كلمة مخالفة لعقائدها ومزاعمها، لكن ذلك لم يمنع محمدا من أن يقوم
برسالته صابرًا مُثابرًا؛ فكان يوحِّد الله في المسجد الحرام، ويصلِّي علَى أعين
المشركين في فناء المسجد الَّذِي كان ناديًا لهم ومجتمعهم؛ فكان يركع لله ويسجد
أمامهم غير مُبالٍ بهم. ولما نزل عليه:﴿ فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ (الحجر:94) صَعَدَ جبل الصَّفَا ونادى
المشركين؛ فلما اجتمعوا إليه؛ بلَّغهم دعوة الله غير مبال بمواقفهم المتشددة منه.
لقد امتحنوه بضُروب من الأذى؛ حتى ألقوا عليه مرة سَلي جَزُور
وهو قائم يصلِّي في فناء البيت الحرام، بل أرادوا مرةً أن يخنُقوه بالرِّدَاء،
وألقوا الشوك في طريقه؛ لكنه لم يقابل ذلك إلا بصبر تندك له الجبال.
لقد حَصَرَته قريش، ومعه قومه من بني هاشم في شِعْب أبي طالب
مدة ثلاثة أعوام، ومنعوهم الطعام حتى كان الصِّبيان يتضوّرون جوعًا، واضطر الرجال
أن يقتاتوا بورق الشَّجَر، ثم بيّتوا قتله؛ لكن محمدا لم يُداخله الخوف ولم يتردد
في تبليغ الرسالة الَّتِي بُعِثَ به.
وبعد أن نجّاه الله وخرج إلى المدينة؛ لم يأمن غوائل قريش
ومكايد اليهود؛ فكان مُحاطًا بالأخطار من كل جانب؛ حتى كان المسلمون يحرسون بيته
في الليل؛ فنزلت هذِهِ الآية:﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ