وأما الثانية، فهي داخلة في معنى الشكر من حيث إنه فرح بالمنعم، ولكن
لا من حيث ذاته بل من حيث معرفة عنايته التي تستحثه على الإنعام في المستقبل،
وهذا حال الصالحين الذين يعبدون الله ويشكرونه خوفاً من عقابه ورجاءً لثوابه.
أما الشكر التام فهو في الفرح الثالث، وهو أن يكون فرح العبد بنعمة
الله تعالى من حيث إنه يقدر بها على التوصل إلى القرب منه تعالى والنزول في جواره
والنظر إلى وجهه على الدوام، فهذا هو الرتبة العليا.
قلت: وعيت هذا، فما الأعمال التي تثمرها هذه الأحوال؟
قال: لقد عبر الشاعر عن ذلك وأحسن، فقال:
أفادتكم النعماء مني ثلاثة
يدي ولساني والضمير المحجبا
وقد قيل للجنيد ـ وهو ابن سبع سنين ـ: يا غلام ما الشكر؟ فقال: (أن
لا يعصى الله بنعمه)
قلت: ما يعني هذا؟
قال: من فرح بشيء فرحا استولى على كيانه، فإنه لا محالة سيتحرك بموجب
ما يهديه إليه فرحه.. فمن فرح بمركوب ركبه، ومن فرح بمأكول أكله.. ومن فرح بشيء
ارتبط به.
وهكذا فرح من رأى نعم الله عليه، فإنه لا محالة يستعملها.. ولكن
الفرق بين استعماله لها واستعمال غيره هو أنه يستعملها في طاعة مولاه الذي أهداها
له.. فلا يحق لمن أهديت له هدية أن يستعملها في مضادة من أهداها له.
قلت: فاضرب لي أمثلة على ذلك.
قال: شكر القلب ـ مثلا ـ وهو تصور النعمة، والاعتراف بها للمنعم،
والعزم على طاعته، وفي ذلك يقول رسول الله a:(عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا