وكيفما كان فلا بد له من العبور، والبناء على القنطرة
وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.
قال أحد
الحاضرين: صدقت.. لقد تأملت الدنيا، فوجدتها[1] سريعة الفناء،
قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء.. تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة،
وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس
بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها.
ومثالها الظل
فإنه متحرك ساكن، متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل
البصيرة الباطنة.
قال آخر: لقد
ذكرت الدنيا عند بعضهم، فأنشد يقول:
أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا
يخدع
قال آخر: وكان
الحسن بن علي يتمثل كثيراً، ويقول:
يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها إن اغتراراً بظل
زائل حمق
قال آخر:
وذكروا أن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم
فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه، فقام وهو يقول:
ألا إنما الدنيا كظل ثنية ولا بد يوماً أن ظلك
زائل
قالوا: عرفنا
الأول، ووعيناه.. فهات الثاني؟
قال: المفتاح
الثاني هو أن تعلموا أن متاع الدنيا قليل، ومطالب الإنسان أكثر من أن يكفيها
متاعها القليل.. لقد ذكر الله تعالى ذلك، فقال :﴿ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا
قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)﴾
(النساء)، وقال:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ
لَكُمُ
[1]
استفدنا الأمثلة والمواعظ الواردة هنا من كتاب (ذم الدنيا) من جملة كتب (إحياء
علوم الدين) للغزالي.