قال: لن تعرف
حقيقة الصبر حتى تعرف كيفية الترتيب بين الملائكة، والإنس، والبهائم، فإن الصبر
خاصية الإنس. ولا يتصور في البهائم ولا الملائكة؟
قلت: فاشرح
لي ذلك..
قال: البهائم
سلطت عليها الشهوات، وصارت مسخرة لها، فلا باعث لها على الحركة والسكون إلا
الشهوة، وليس فيها قوة تصادم الشهوة وتردها عن مقتضاها، حتى يسمى ثبات تلك القوة
في مقابلة مقتضى الشهوة صبرا.
وأما
الملائكة عليهم السلام. فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية، والابتهاج بدرجة
القرب منها، ولم تسلط عليهم شهوة صارفة صادة عنها حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها
عن حضرة الجلال بجند آخر يغلب الصوارف.
وأما الإنسان
فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصا مثل البهيمة، لم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو
محتاج إليه، ثم تظهر فيه شهوة اللعب والزينة، ثم غيرها من الشهوات..
وبما أن اللّه
تعالى بفضله وسعة جوده، أكرم بني آدم، ورفع درجتهم عن درجة البهائم، فقد وكل بهم
عند كمال شخصهم بمقاربة البلوغ ملكين، أحدهما يهديهم، والآخر يقويهم. فتميز بمعونة
الملكين عن البهائم، واختص بصفتين إحداهما معرفة اللّه تعالى، ومعرفة رسوله،
ومعرفة المصالح المتعلقة بالعواقب. وكل ذلك حاصل من الملك الذي إليه الهداية
والتعريف.
فصار الإنسان
بنور الهداية يعرف أن اتباع الشهوات له مغبات مكروهة في العاقبة، ولكن لم تكن هذه
الهداية كافية ما لم تكن له قدرة على ترك ما هو مضر، فافتقر إلى قدرة وقوة يدفع
بها في نحر الشهوات، فيجاهدها بتلك القوة حتى يقطع عداوتها عن نفسه. فوكل