قال: حال الزهد هو عبارة عن انصراف رغبات النفس عن
الشيء إلى ما هو خير منه.. فكل من رغبت نفسه عن شيء إلى غيره بمعاوضة وبيع وغيره
فإنما عدل عنه لرغبته عنه.. وإنما عدل إلى غيره لرغبته في غيره، فحاله بالإضافة
إلى المعدول عنه يسمى زهدا، وبالإضافة إلى المعدول إليه يسمى رغبة وحبا.
قلت: وعيت
هذا.. أي أن الزهد يستدعى مرغوبا عنه، ومرغوبا فيه هو خير من المرغوب عنه.
قال: أجل
بشرط واحد، وهو أن يكون المرغوب عنه أيضا مرغوبا فيه بوجه من الوجوه.. فمن رغب عما
ليس مطلوبا في نفسه لا يسمى زاهدا .. فتارك الحجر والتراب وما أشبهه لا يسمى
زاهدا.. وإنما يسمى زاهدا من ترك الدراهم والدنانير، لأن التراب والحجر ليسا في
مظنة الرغبة .. وشرط المرغوب فيه أن يكون عنده خيرا من المرغوب عنه، حتى تغلب هذه
الرغبة.
قلت: وعيت
هذا.. وقد أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام: ﴿وَشَرَوْهُ
بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾
[يوسف: 20]، فقد وصف الله تعالى إخوة يوسف بالزهد فيه، إذ أرادوا بذلك أن يخلو لهم
وجه أبيهم، وكان ذلك عندهم أحب إليهم من يوسف، فباعوه طمعا في العوض.
قال: أجل..
ولهذا فإن الزهد يشمل جميع الناس .. من زهد منهم في الدنيا، ومن زهد في الآخر.. فمن
باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا.. وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضا زاهد،
ولكن في الآخرة.
قلت: ما دام
الأمر كذلك.. فلم خصصتم الزهد بالزهد في الدنيا؟
قال: هكذا
جرى العرف، وإلا فإن الزاهد الحقيقي هو ذلك الذي باع آخرته بدنياه.. أما من آثر
أخراه على أولاه، فهو أكثر الناس حرصا، وأعظمهم رغبة.