والركن الثاني هو كون
ذلك الخضوع ناشئا عن طواعية تامة لله تعالى، وهذا هو الجانب الذي أبته السموات
والأرض من تحمل الأمانة، لأن الركن الأول من العبادة، وهو الخضوع المطلق لله،والذي
لا سلطة للخاضع فيه ولا اختيار هو عمل الكون جميعا، كما قال تعالى:﴿ وَلَهُ مَنْ فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَلا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ (الانبياء:19)، وقال تعالى:﴿ وَلِلَّهِ
يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ (الرعد:15)، وقال تعالى:﴿ وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ
يُرْجَعُونَ﴾ (آل عمران: 83)
وقد اختلف في التعبير
عن علة الخضوع الناشئ عن الطواعية، فذهب الأكثر إلى العبادة المأمور بها تتضمن
معنى الذل ومعنى الحب، فهي تتضمن غاية التذلل لله تعالى مع غاية المحبة له.
وسر ذلك أن من خضع
لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدا له، ولو أحب شيئا ولم يخضع له، لم يكن عابدا له،
كما قد يحب الرجل ولده وصديقه، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى، بل يجب
أن يكون الله أحب إلي العبد من كل شيء.
وعبر فريق آخر عن هذه
العلة بأنها المعرفة، كما قال محمد عبده: (تدل الأساليب الصحيحة، والاستعمال
العربي الصراح، على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ناشئ عن استشعار
القلب عظمة للمعبود، لا يعرف منشأها، واعتقاده بسلطة له لا يدرك تفهمها وماهيتها،
وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به، ولكنها فوق إدراكه، فمن ينتهي إلى أقصى الذل
لملك من الملوك لا يقال ( إنه عبده) وإن قبل موطئ أقدامه، ما دام سبب الذل والخضوع
معروفا، وهو الخوف من ظلمه المعهود، أو الرجاء في كرمه المحدود، اللهم إلا بالنسبة
إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى،
واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا، لأنهم أطيب الناس عنصرا، وأكرمهم جوهرا،
هؤلاء هم الذين