قد يقال بعد هذا:
لقد عرفنا في سر العدل أن الله تعالى لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون،
فكيف يستوي في موازين اصطفاء الله السابقون مع الظالمين لأنفسهم، فهل يرجع الأمر
إلى محض المشيئة، أم أن هناك قوانين وسننا ضابطة لهذا الاصطفاء تمنع تساوي
الفريقين؟
والجواب عن ذلك أن
جناب الحق العدل الحكيم يعز عن أن يساوى بين المحسن والمسيئ، وبين القريب والبعيد،
كما لا تستوي الظلمات والنور، ولا الظل ولا الحرور.
بل هو تعالى ـ مع
مشيئته المطلقة ـ أخبرنا بقوانين الثواب والعقاب التي يتعامل بها مع عباده، حتى
يقيم الحجة علينا.
فلذلك كان من
الذنوب ـ التي هي سبب الظلم للنفس ـ ما يكفي في تطهيره العمل الصالح بعده، وكان
منها ما تكفي فيه المغفرة المجردة من العمل، وكان منها ما يحتاج إلى التوبة
النصوح، وكان منها ما يستدعي استحلال الخلائق ورد حقوقهم.
فالذنوب كالأمراض،
منها ما يزور الفينة بعد الفينة ليغادر من غير أن يترك آفة أو يحدث ضررا، بل قد
تكون زيارته عافية: وربما صحت الأجسام بالعلل، وإلى هذا النوع من الذنوب الإشارة
بقوله a:( والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء
بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم) [1]
ومن الذنوب ما يحدث
جراحا في القلب تداويها الأعمال الصالحة، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى:﴿ وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً
مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ﴾ (هود:114)