وهذه المشاعر وغيرها
هي الأساس النظري الذي تنطلق منه علاقة المؤمن بالأرض، علاقة الرحلة إلى الله بما
تقتضيه من صلاح يقدم على المصالح، فالمصالح نتيجة محدودة مؤقتة، والصلاح سير قد
يكون عسيرا ولكن نتيجته تحوي المصالح الحقيقية للإنسان، والتي ينشغل عنها بمصالح
التركيبة المعدنية والعضوية والغازية التي تشده إلى الأرض وتشعره بملكيته لها.
ولهذا نرى في
القرآن الكريم الترغيب الكثير بالهجرة في سبيل الله وعدم الركون إلى الأرض إن كان
في الركون إليها إضرارا بالمصالح الشرعية التي من أجلها سخرت الأرض مركبة طيعة
للإنسان، قال تعالى :﴿ يَاعِبَادِي
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِي﴾(العنكبوت:56)
والحديث عن السعة
هنا يشير إلى الهجرة إذا ما اقتضى تحقيق العبادة ذلك، ولهذا لا تعذر الملائكة
الذين يموتون مستضعفين مع أن لهم إمكانيات التنقل والبحث في الأرض عن مواطن جديدة
لتحقيق العبودية، هم كالمسافر الذي يبحث في القاطرة أو الطائرة عن الموضع المناسب
له.
قال تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ
الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً
فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾(النساء:97)، فاستضعاف هؤلاء الظالمين
لأنفسهم لم يكن بسبب عجزهم وإنما بسبب ركونهم وتثاقلهم إلى الأرض، ولهذا جاءت
الآيات بعدها تستثني الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا،