وقد أرسل الإمام الرضا إلى بعض
أصحابه برسالة طويلة لا يدعوه فيها إلى اتباعه والخضوع لأوامره ـ كما يفعل أصحابك
الذين أمروك بسجن عقلك ـ وإنما أمره باتباع العقل وإعماله، فمن اتبع العقل وأعمله
عرف أصحاب الحق، واتبعهم لا لذواتهم، وإنما لأن العقل هو الذي هداه إليهم.
ومما جاء في تلك الرسالة قوله:
(يا هشام ما بعث الله أنبياءه ورسله إلى عباده إلا ليعقلوا عن الله، فأحسنهم
استجابة أحسنهم معرفة، وأعلمهم بأمر الله أحسنهم عقلا، وأكملهم عقلا أرفعهم درجة
في الدنيا والآخرة.. يا هشام إن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما
الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة عليهم السلام، وأما الباطنة فالعقول.. يا هشام
إن العاقل الذي لا يشغل الحلال شكره، ولا يغلب الحرام صبره.. يا هشام من سلط
ثلاثاً على ثلاث فكأنما أعان على هدم عقله؛ من أظلم نور تفكره بطول أمله، ومحى
طرائف حكمته بفضول كلامه، وأطفأ نور عبرته بشهوات نفسه، فكأنما أعان هواه على هدم
عقله، ومن هدم عقله، أفسد عليه دينه ودنياه.. يا هشام كيف يزكو عند الله عملك،
وأنت قد شغلت قلبك عن أمر ربك وأطعت هواك على غلبة عقلك.. يا هشام الصبر على
الوحدة علامة قوة العقل، فمن عقل عن الله؛ اعتزل أهل الدنيا والراغبين فيها، ورغب
فيما عند الله، وكان الله أنسه في الوحشة، وصاحبه في الوحدة، وغناه في العيلة،
ومعزه من غير عشيرة.. يا هشام نصب الحق لطاعة الله، ولا نجاة إلا بالطاعة، والطاعة
بالعلم والعلم بالتعلم، والتعلم بالعقل يعتقد، ولا علم إلا من عالم رباني، ومعرفة
العلم بالعقل.. يا هشام قليل العمل من العالم مقبول مضاعف، وكثير العمل من أهل
الهوى والجهل مردود.. يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة، ولم يرض
بالدون من الحكمة مع الدنيا، فلذلك ربحت تجارتهم.. يا هشام إن العقلاء تركوا فضول
الدنيا فكيف الذنوب، وترك الدنيا من