يجادل أهل الأهواء حتى صار رأسا في ذلك منظورا إليه، ثم ترك الجدل ورجع إلى الفقه والسنة وصار إماما" [1].
وأما تحوله إلى الفقه والسنة فيحدثنا الإمام عن أسباب ذلك فيقول: "وكنت أعد الكلام أفضل العلوم، وكنت أقول هذا الكلام في أصل الدين، فراجعت نفسي بعد ما مضى لي فيه عمر، وتدبرت فقلت: إن المتقدمين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وأتباعهم لم يكونوا يفوتهم شيء مما ندركه نحن، وكانوا عليه أقدر، وبه أعرف، وأعلم بحقائق الأمور، ثم لم ينتصبوا فيه منازعين ولا مجادلين، ولم يخوضوا فيه بل أمسكوا عن ذلك، ونهوا عنه أشد النهي، ورأيت خوضهم في الشرائع وأبواب الفقه وكلامهم فيه" إلى أن قال: "فلما ظهر لنا في أمورهم هذا الذي وصفناه؛ تركنا المنازعة والمجادلة والخوض في الكلام، ورجعنا إلى ما كان عليه السلف" [2].
وفي رواية أخرى قال: "فلما مضى مدة من عمري تفكرت وقلت: السلف أعلم بالحقائق ولم ينتصبوا مجادلين، بل أمسكوا عنه وخاضوا في علم الشريعة، ورغبوا فيه وعلموا وتعلموا وتناظروا عليه، فتركت الكلام واشتغلت بالفقه، ورأيت المشتغلين بالكلام وليس سيماهم سيَم الصالحين قاسيةٌ قلوبهم غليظة أفئدتهم، لا يبالون بمخالفة الكتاب والسنة والسلف الصالح، ولو كان خيرا لاشتغل به السلف الصالحون ... " [3].
هذا هو حال المتكملين فبتعلقهم بالكلام واشتغالهم به ابتعدوا عن [1] عقود الجمان ص161؛ ومناقب أبي حنيفة للمكي ص53، 54. [2] مناقب أبي حنيفة للمكي ص54، 55. [3] مناقب أبي حنيفة للكردري ص137، 138.