تقدم في الباب الأول، على أنه بعد ثبوت صدق الشارع بالدلائل العقلية يكون الاحتجاج بخبره احتجاجاً بالعقل.
قوله: «فإن خالفه العقل وجب تقديم العقل ... » قول مردود عليه، بل إن كان الدليل العقلي من المأخذ السلفي الأول فهو قرينة صحيحة يعلم بها أن معنى الخبر خلاف ما يتراءى منه لولا القرينة، فليس هنا تقديم للعقل ولا للشرع إذ لا تخالف، وإنما هنا حمل للخبر على ما هو الظاهر الحقيقي، فأن الخبر إذا اقترنت به قرينة صحيحة تصرف عما يتراءى منه لولاها، فظاهره الحقيقي هو ما يفهم منه مع القرينة وهي حينئذ بمثابة كلمة من لفظ الخبر. وإن لم يكن هناك ما يخالف ظاهر النص إلا قياس أو أقيسة مما يركبه المتعمقون مكن أصحاب المأخذ الخلفي الأول، فالواجب تقديم النص ولا سيما إذا كان قطعي الثبوت كآية من القرآن أوسنة ثابتة قطعاً، وقد تقدم في الباب الأول بيان وهن تلك الأقيسة، ولا يلزم من تقديم النص عليها حكم على العقل الذي هو من المأخذ السلفي الأول بأنه لا يوثق به، وإنما يلزم الحكم بذلك على ذاك القياس وما كان قبيله، والشرع لم يثبت بشيء من ذلك، كيف وقد ثبت الإسلام في العرب، ولا أثر فيهم للتعمق البتة، وكذلك بقية الشرائع، وإنما ثبت الشرع بما تقدم في المطلب الأول، والعقل هناك هو العقل الفطري الذي أعده الله عز وجل لإدراك بيناته في الدين.
هذا وقد تقدم في الباب الأول بيان حال النظر المتعمق فيه، وأنه قد يتعرض عند أصحابه قياسان كل منهما بحيث لوأنفرد لكان قاطعاً عندهم، وقد يحصل لبعضهم قياس يعتقد أنه قاطع يقيني ثم بعد مدة يتبين له أنه مختل، وكثيراً ما يتمسك أحد الفريقين المختلفين منهم كالأشعرية والمعتزلة بقياس، ويرى أنه قطعي يقيني، ويتمسك الفريق الآخر بقياس آخر مناقض لذلك ويرى أنه قطعي يقيني، ويثبت كل الفريقين على رأيه في قياسه يحاول القدح في قياس مخالفه، ويستمر هذا إلى مئات السنين، وهم يعرفون هذا ويعترفون به، مع ذلك لا يرونه موجباً