وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة، وهي غير مشار إليها.
وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال.
واضطرب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح ـ التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ـ ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ.
وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ (الجسم) للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.
فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} [المنافقون: 4] ، وقال تعالى: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247] .
وأما أهل الكلام، فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة.
ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.
ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه ويقال: إنه هنا أو هناك.