وسقط فى يد هذا الضال المسكين، وطلب منهم مهلة ليفكر في الأمر، ولم يستطع أن يستلهم حجة، ولم يسأل العلماء فيداووه ويلقنوه.
وقادته الحيرة إلى الشك فى دينه، فترك الصلاة مدة، ثم استغرق فى التفكير والتأمل، حتى انقدح في ذهنه جواب خرج به عليهم قائلا: " هو هذا الهواء مع كل شئ وفي كل شئ ولا يخلو من شئ " [1] .
وهذا الجواب الذي هو أساس نفي الصفات، هو قول طائفة من زنادقة الهند الآخرين [2] .
وهذا المنزلق تلاه ما تلاه من هوى ورأي.
وكانت حياة جهم فى آخر عصر بنى أمية، حيث ظهرت البدع وتشعبت أصول الفرق، وكان مقتضى خوضه وجداله أن يخوض فى قضية الإيمان ويدلي بدلوه في هذه المسألة التي كانت الفرق حوله تتجادل فيها كثيرا، وكان طبيعيا أن يخرج جهم بقول لم يسبقه إليه أحد، وهو أن الإيمان هو مجرد المعرفة بالقلب، فمن عرف الله بقلبه فهو مؤمن، دونما حاجة إلى قول باللسان ولا عمل بالجوارح.
والذي يظهر لمن يطالع سيرة الرجل وواقع عصره، أنه ركب هذا القول من كلام المتفلسفة من الزنادقة، الذين لا يعدو الإيمان عندهم مجرد الإقرار النظري بوجود الله، ومن كلام المرجئة الفقهاء الذين أصروا على نفي دخول الأعمال فى الإيمان.
والجديد فى عمل جهم أنه نقل كلام الطائفة الأولى من محيط الفلسفة التي لا صلة لها قط بالإسلام ليدخله في الإسلام متذرعا فى ذلك بلوازم كلام الطائفة الأخرى ومفهومه الذى لم يقصدوه قط، وبذلك أصبح هذا القول الفلسفي [1] انظر عن هذه المناظرة: الرد على الجهمية والزنادقة للإمام أحمد، ص65، خلق أفعال العباد للبخارى، ص35، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائكى (3/380 - 387) ، الفتح (13/345) ، مقدمة التسعينية لشيخ الإسلام ابن تيمية (أى الجزء الخامس من الفتاوى الكبرى بطبعتيها) . [2] انظر: تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة فى العقل أو مرذوله لأبي الريحان البيرونى، ص20 - 24، ومما يستلفت النظر أن بعض ما نسجه البيرونى لكتب ديانة الهند القديمة فى الصفات والقدر، يماثل تماما ما يدين به ورثه جهم من نفات الصفات كلها أو بعضها وما يقولونه فى الكسب.