وأبو حنيفة رحمه الله تضاربت الأقوال في حقيقة مذهبه [1] - وموقفه من أعمال القلوب خاصة - أهي داخلة في الإيمان أم لا؟
ولم يثبت لدي فيما بحثت أي نص من كلام الإمام نفسه، إلا أنني لا أستبعد أنه رحمه الله رجع عن قوله ووافق السلف في أن الأعمال من الإيمان، وهذا هو المظنون به [2] . أما المشهور المتداول عنه فهو مذهب المرجئة الفقهاء، أي إن الإيمان يشمل ركنين: تصديق القلب وإقرار اللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص ولا يستثنى فيه، وأن الفاسق يسمى مؤمناً، إذ الإيمان شىء واحد ينتفي كله أو يبقى كله حسب الأصل المذكور سابقاً.
وأشهر من يمثل هذا المذهب هم فقهاء الحنفية المتمسكون بعقيدة السلف وعلى رأسهم الإمام أبو جعفر الطحاوي صاحب العقيدة المشهورة، والإمام القاضي ابن أبي العز شارحها، وقليل من المتأخرين.
وحقيقة الأمر أن مذهب هؤلاء مضطرب متردد، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " إنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضاً، فإنها لازمة لها " [3] .
... وعبارة الطحاوي رحمه الله تدل على هذا فإنه قال: " والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق، والإيمان [1] فأما رسالة العالم والمتعلم فإن الكوثري على تعصبه الشديد طعن في سندها (وكذا رسالة الفقه الأكبر) ، وقد أثبت ذلك المحققان في مقدمتها، وأما الأشعري في المقالات فقد قال عن أبي حنيفة ما لا نستطيع إثباته، وهو قوله: " الفرقة التاسعة من المرجئة أبو حنيفة وأصحابه؛ يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير، وذكر أبو عثمان الآدمي أنه اجتمع أبو حنيفة وعمر بن أبى عثمان الشمرى بمكة، فسأله عمر فقال له: أخبرني عمن زعم أن الله سبحانه حرم أكل الخنزير غير أنه لا يدرى لعل الخنزير الذي حرمه الله ليس هذه العين، فقال: مؤمن!! فقال له عمر: فإنه قد زعم أن الله فرض الحج إلى الكعبة غير أنه لا يدري لعلها كعبة غير هذه بمكان كذا؟ فقال: مؤمن!! قال: فإن قال:أعلم أن الله بعث محمداً غير أنه لا يدرى لعله هو الزنجي؟ قال: هذا مؤمن!! ولم يجعل أبو حنيفة شيئا ًمن الدين مستخرجا ًإيماناً، وزعم أن الإيمان لا يتبعض، ولا يزيد ولا ينقص، ولا يتفاضل الناس فيه "المقالات ص139". ويلاحظ أن الشهرستاني نسب هذا لغسان. وكذبه في نسبته لأبي حنيفة، ولم يتعرض لنقد الاشعري - مع أنه إنما ينقل عنه غالباً. انظر: الملل والنحل (1/141) تحقيق: الكيلاني. [2] روى الإمام ابن عبد البر بسنده أن حماد بن زيد ناظر أبا حنيفة في الإيمان، وذكر له حديث " أي الإسلام أفضل، وفيه ذكر أن الجهاد والهجرة من الإيمان " فسكت أبو حنيفة، فقال بعض أصحابه: ألا تجيبه؟ قال: لا - أو بم - أجيبه وهو يحدثني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ التمهيد (9/247) ، ونسبها ابن أبي العز للطحاوى 331. [3] الإيمان ص183.