صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا، فقالوا لأحدهما: قرب. قال: ليس عندي شيء أقرب. قالوا له: قرب ولو ذبابا. فقرب ذبابا، فخلوا سبيله، فدخل النار. وقالوا للآخر: قرب. فقال: ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل: فضربوا عنقه فدخل الجنة " رواه أحمد.
فيه مسائل: الأولى: تفسير {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} [1].
الثانية: تفسير {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [2].
لهم النبي صلي الله عليه وسلم ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة، ويستوجب الآخر عليه النار.
قوله: " فقال: مر رجلان على قوم لهم صنم " الصنم: ما كان منحوتا على صورة، ويطلق عليه الوثن كما مر [3].
قوله: "لا يجاوزه" أي لا يمر به ولا يتعداه أحد حتى يقرب إليه شيئا وإن قل.
قوله: " قالوا له: قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله; فدخل النار " في هذا بيان عظمة الشرك، ولو في شيء قليل، وأنه يوجب النار[4]. كما قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [5].
وفي هذا الحديث: التحذير من الوقوع في الشرك، وأن الإنسان قد يقع فيه وهو لا يدري أنه من الشرك الذي يوجب النار.
وفيه: أنه دخل النار بسبب لم يقصده ابتداء، وإنما فعله تخلصا من شر أهل الصنم.
الثالثة: البداءة بلعنة من ذبح لغير الله.
الرابعة: لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك.
الخامسة: لعن من آوى محدثا، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق لله، فيلتجئ إلى من يجيره من ذلك.
السادسة: لعن من غير منار الأرض، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك، فتغيرها بتقديم أو تأخير.
السابعة: الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم.
الثامنة: هذه القصة العظيمة، وهي قصة الذباب.
التاسعة: كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده، بل فعله تخلصا من شرهم[6].
العاشرة: معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم، مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافرا لم يقل " دخل النار في ذباب".
الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك " [7].
وفيه: أن ذلك الرجل كان مسلما قبل ذلك، وإلا فلو لم يكن مسلما لم يقل دخل النار في ذباب.
وفيه: أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، ذكره المصنف بمعناه. [1] سورة الأنعام آية: 162. [2] سورة الكوثر آية: 2. [3] قال في النهاية: كل ما عبد من دون الله بل كل ما يشغل عن الله يقال له: صنم. [4] في قرة العيون: لأنه قصد غير الله بقلبه أو انقاد بعمله فوجبت له النار, ففيه معنى حديث مسلم الذي تقدم في باب الخوف من الشرك عن جابر مرفوعا: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة, ومن لقيه يشرك به دخل النار". فإذا كان هذا فيمن قرب للصنم ذبابا فكيف بمن يستسمن الإبل والبقر والغنم ليتقرب بنحرها وذبحها لمن كان يعبده من دون الله, من ميت أو غائب, أو طاغوت أو مشهد أو شجر, أو حجر أو غير ذلك؟ وكان هؤلاء المشركون في أواخر هذه الأمة يعدون ذلك أفضل من الأضحية في وقتها الذي شرعت فيه, وربما اكتفى بعضهم بذلك عن أن يضحي لشدة رغبته وتعظيمه ورجائه لمن كان يعبده من دون الله; وقد عمت البلوى بهذا وما هو أعظم منه. [5] سورة المائدة آية: 72. [6] الظاهر أنه ليس متخلصا وإلا لم يدخل النار; (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان) . [7] البخاري: الشهادات (2650) , ومسلم: الهبات (1623) , والنسائي: النحل (3681 ,3682 ,3683) , وأحمد (4/273) .