الحقيقة تعطيل وجحد لصفات الله تعالى، ومن مبالغة الجهمية في إنكارهم صفة الرحمة أن قدوتهم الأول في الضلالة "الجهم بن صفوان" كان يقف على الجذامى ويشاهد ما هم فيه من البلايا ويقول: "أرحم الراحمين يفعل مثل هذا يعني أنه ليس ثم رحمة في الحقيقة، وأن الأمر راجع إلى محض المشيئة الخالية عن الحكمة والرحمة، ولا حكمة عنده ولا رحمة، فإن الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه، والإحسان إليه، فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل الرحمة والإحسان" 1.
فإمام الجهمية في الضلال ينكر رحمة الله وحكمته وعلى ذلك جرى أتباعه أما شبهة الجهمية وأفراخهم المعتزلة التي أدت بهم إلى إنكار صفة الرحمة وهي قولهم: أن الرحمة ضعف وخور في الطبيعة، وتألم على المرحوم فهذا زعم باطل من وجوه:
الوجه الأول: أن الضعف والخور مذموم في الآدميين والرحمة ممدوحة قال تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} 2، وقد نهى الله عن الوهن والحزن فقال: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 3، وندبهم إلى الرحمة فقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنزع الرحمة إلا من شقي" 4 وقال: "من لا يَرْحَم لا يُرْحَم" 5 وقال: "الرَّاحمون يرحمهم الرحمن" 6 ومحال أن يقول: لا ينزع الضعف والخور إلا من شقي، ولما كانت الرحمة تقارن في حق كثير من الناس الضعف والخور كما في رحمة النساء ونحو ذلك ظن الغالط أنها كذلك مطلقاً.
الوجه الثاني: أنه لو قدر أنها في حق المخلوقين مستلزمة لذلك لم يجب أن تكون في حق الله ـ تعالى ـ مستلزمة لذلك، كما أن العلم والقدرة والسمع والبصر والكلام فينا يستلزم من النقص والحاجة ما يجب تنزيه الله عنه.
الوجه الثالث: إنا نعلم بالاضطرار أنا إذا فرضنا موجوديْن أحدهما يرحم غيره
1- مجموع الفتاوى 17/177، إغاثة اللهفان 2/277، شفاء العليل ص202.
2- سورة البلد، آية: 17.
3- سورة آل عمران، آية: 139.
4- رواه أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة رضي الله عنه 2/301.
5- متفق عليه: صحيح البخاري 4/51، صحيح مسلم 4/1809 كلاهما من حديث أبي هريرة.
6- رواه أبو داود في سننه 2/582، والترمذي 3/217 كلاهما من حديث عبد الله بن عمرو.