قال تعالى: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ الله حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلله خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} 1.
وقال تعالى: {قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنْفَاقِ وَكَانَ الإِنْسَانُ قَتُوراً} 2
فهذه الآيات التي قدمنا ذكرها فيها الإخبار منه ـ تعالى ـ بكمال غناه عن خلقه وأنه لا يزيد في غناه طاعة من أطاعه ولا ينقص من غناه معصية من عصاه.
وبينت أنه ـ سبحانه ـ لم يخلق الخلق لحاجته إليهم، وأنه لو شاء لذهب بهم وأتى بغيرهم، وأخبر ـ تعالى ـ بأنهم فقراء إليه لا غنى لهم عنه في نفس من أنفاسهم وكلهم يعلم ذلك، مقرين به، وأنهم لم يكونوا موجودين حتى أوجدهم وليس لهم قدرة من أنفسهم ولا غيرها إلا بما أقدرهم الله عليه فإنه ـ سبحانه ـ الغني الفعال لما يريد، كما أن تلك الآيات تتضمن الرد على القائلين أن علة افتقار الخلائق إليه ـ سبحانه ـ إنما هو الحدوث فلا تحتاج إليه ـ سبحانه ـ إلا في حال الإحداث.
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ في صدر رده على الجهمية والمعتزلة القائلين بأن علة افتقار الخلائق إلى ربها إنما هو الحدوث فلا تحتاج إليه ـ سبحانه ـ إلا في حال الإحداث، وفي رده على ابن سيناء وطائفة الذين يقولون بأن علة افتقار الخلائق إلى ربها إنما هو الإمكان الذي يظن أنه يكون بلا حدوث، بل يكون المعلول قديماً أزلياً، ويمكن افتقارها في حال البقاء بلا حدوث. فقد بين ـ رحمه الله ـ بطلان هذين القولين: وقرر بأن الإمكان والحدوث متلازمان كما عليه جماهير العقلاء من الأولين والآخرين، وحتى القدماء من الفلاسفة كأرسطو وأتباعه فإنهم يقولون: إن كل ممكن فهو محدث، ولم يخالف في هذا إلا ابن سيناء وطائفة، ولذلك إخوانهم من الفلاسفة أنكروا عليهم رأيهم كابن رشد3 وغيره ... إلى أن قال ـ رحمه الله ـ والمخلوقات مفتقرة إلى الخالق فالفقر
1- سورة المنافقون آية: 7.
2- سورة الإسراء آية: 10.
3- هو: محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الأندلسي أبو الوليد الفيلسوف من أهل قرطبة اشتغل بعلم الفلسفة وترجمها إلى العربية، وله مؤلفات كثيرة في فنون مختلفة. ولد سنة عشرين وخمسمائة، وتوفي سنة خمس وتسعين وخمسمائه. انظر ترجمته في: شذرات الذهب 4/320، والأعلام للزركلي 6/612.