ثانيًا: قيام هذه الأمة بالعدل
لم يكن العدل في حياة هذه الأمة المحمدية الخاتمة مجرد مثل عليا، أو وصايا تفخر بها، دون ممارسة أو تطبيق؛ ولكنه كان واقعًا عاشته هذه الأمة ومارسته، وطبقته في واقع حياتها، على مر تاريخها الطويل، على تفاوت في ذلك التطبيق يبين زمان وزمان، ودولة ودولة، وحسب اشتعال جذوة الإيمان في قلوب الحاكمين وخبوئها؛ غير أنه مما يقطع به أنه لم يخل زمان ممن يقيم الحق والعدل ويقوم بالقسط ويحكم به من هذه الأمة.
وحسبنا أن نذكر فيما يلي صورًا من عدل هذه الأمة فيما بينهان ومع أعدائها وخصومها، وأهل ذمتها وسنختار هذه الصورة من واقع الأمة من خلال تاريخها الطويل. ليعلم أن هذه الأمة لم تزل قائمة بالقسط بين الناس شاهدة به على الناس لله، وأنها جديرة بأن تكون الأمة الوسط الشاهدة على البشرية.
وأولى هذه الصور تعيضها مع سيد الخلق وإمام العادلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، إمام هذه الأمة ومعلمها الخير، وهو يضرب أروع الأمثلة ويلقن أمته أبلغ دروس العدل والإنصاف والمساواة.
فها هو صلى الله عليه وسلم يقيد أحد أصحابه من نفسه في طعنة طعنها إياه بالقدح في بطنه أثناء تسويته الصف للقتال، روى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم: "عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يديه قدح[1] يعدل به القوم، فمر بسواد بن غزية[2] وهو مستنتل[3] من الصف، قال ابن هشام: -ويقال: مستنصل[4] من الصف -فطعن [1] القدح "بكسر القاف وسكون الدال": السهم. لسان العرب 2/ 556. [2] هو: سواد بن غزية الأنصاري من بني عدي بن النجار. المشهور أنه بتخفيف الواو وحكى السهيلي تشديدها، شهد بدرًا، وأمره النبي صلى الله عليه وسلم على خيبر. انظر: ابن حجر، الإصابة 2/ 95، ترجمة 3582. [3] مستنتل: أي: متقدم؛ وهو بمعنى: خارج، يقال: استنتل؛ أي: خرج وتساتل الناس إذا خرجوا. انظر: لسان العرب 11/ 324، مادة "ستل". [4] مستنصل: أي: خارج من نصل؛ بمعنى: خرج سان العرب أيضًا 11/ 662 "نصل"، وابن الأثير: النهاية في غريب الحديث 5/ 66.