نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 467
إن النص القرآني لا يتتبع أحداث المعركة للرواية والعرض ولكنه يتتبع دخائل النفوس وخوالج القلوب ويتخذ من الأحداث مادة تنبيه وتنوير وتوجيه..
وهو لا يعرض الحوادث عرضاً تاريخياً مسلسلاً بقصد التسجيل إنما هو يعرضها للعبرة والتربية واستخلاص القيم الكامنة وراء الحوادث ورسم سمات النفوس، وخلجات القلوب، وتصوير الجو الذي صاحبها والسنن الكونية التي تحكمها والمبادئ الباقية التي تقررها. وبذلك تستحيل الحادثة محوراً أو نقطة ارتكاز لثروة ضخمة من المشاعر والسمات، والنتائج والاستدلالات. يبدأ السياق منها ثم يستطرد حولها ثم يعود إليها ثم يجول في أعماق الضمائر، وفي أغوار الحياة ويكرر هذا مرة بعد مرة، حتى ينتهي برواية الحادث إلى نهايتها وقد ضم جناحيه على حفل من المعاني والدلائل والقيم والمبادئ، لم تكن رواية الحادث إلا وسيلة إليها، ونقطة ارتكاز تتجمع حواليها. وحتى يكون قد تناول ملابسات الحادث وعقابيله في الضمائر، فجلاها. ونقاها، وأراحها في مواضعها، فلا تجد النفس منها حيرة ولا قلقاً، ولا تحس فيها لبساً ولا دخلاً..
وينظر الإنسان في رقعة المعركة، وما وقع فيها- على سعته وتنوعه- ثم ينظر إلى رقعه التعقيب القرآني، وما تناوله من جوانب فإذا هذه الرقعة أوسع من تلك، وأبقى على الزمن، وألصق بالقلوب، وأعمق في النفوس، وأقدر على تلبية حاجات النفس البشرية، وحاجات الجماعة الإسلامية، في كل موقف تتعرض له في هذا المجال، على تتابع الأجيال. فهي تتضمن الحقائق الباقية من وراء الأحداث الزائلة، والمبادئ المطلقة من وراء الحوادث المفردة، والقيم الأصيلة من وراء الظواهر العارضة، والرصيد الصالح للتزود بغض النظر عن اعتبارات الزمان والمكان..
وهذه الحصيلة الباقية تدخرها النصوص القرآنية لكل قلب يتفتح بالإيمان، في أي زمان وفي أي مكان..
وسنعرض لها متجمعة- إن شاء الله- بعد استعراضها متفرقة في النصوص..
121- «وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال، والله سميع عليم. إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا، والله وليهما، وعلى الله فليتوكل المؤمنون» ..
هكذا يبدأ باستعادة المشهد الأول للمعركة واستحضاره- وقد كان قريباً من نفوس المخاطبين الأولين بهذا القرآن ومن ذاكرتهم. ولكن ابتداء الحديث على هذا النحو، واستحضار المشهد الأول بهذا النص، من شأنه أن يعيد المشهد بكل حرارته وبكل حيويته وأن يضيف إليه ما وراء المشهد المنظور- الذي يعرفونه- من حقائق أخرى لا يتضمنها المشهد المنظور. وأولها حقيقة حضور الله- سبحانه- معهم، وسمعه وعلمه بكل ما كان وما دار بينهم. وهي الحقيقة التي تحرص التربية القرآنية على استحضارها وتقريرها وتوكيدها وتعميقها في التصور الإسلامي. وهي هي الحقيقة الأساسية الكبيرة، التي أقام عليها الإسلام منهجه التربوي. والتي لا يستقيم ضمير على المنهج الإسلامي، بكل تكاليفه، إلا أن تستقر فيه هذه الحقيقة بكل قوتها، وبكل حيويتها كذلك:
«وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ.. وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ..» ..
والإشارة هنا إلى غدو النبي- صلى الله عليه وسلم- من بيت عائشة- رضي الله عنها- وقد لبس لأمته ودرعه بعد التشاور في الأمر، وما انتهى إليه من عزم على الخروج من المدينة للقاء المشركين خارجها.. وما أعقب هذا من تنظيم الرسول- صلى الله عليه وسلم- للصفوف، ومن أمر للرماة باتخاذ موقفهم على الجبل..
وهو مشهد يعرفونه، وموقف يتذكرونه.. ولكن الحقيقة الجديدة فيه هي هذه:
نام کتاب : في ظلال القرآن نویسنده : سيد قطب جلد : 1 صفحه : 467