نام کتاب : المعجزة الكبرى القرآن نویسنده : أبو زهرة، محمد جلد : 1 صفحه : 86
يحيط الإهاب بالجسم، ولكنه ترك الأخذ بالهدى استجابة لداعي الشيطان، وصار من الضالين الذين أغواهم إبليس اللعين، فكان مثله كمثل من ينسلخ عن الإهاب الذي لبسه ولصق بجسمه، ولو شاء الله تعالى لرفعه من كبوة الضلال بما آتاه الله تعالى من علم، ولكنَّه هو الذي انحطَّ إلى الأرض ونزل إليها بسبب هواه، فصار مثله كمثل الكلب يلهث دائمًا، إن ترك يلهث، وإن حمل عليه يلهث، ولننظر في الكلمات التي تشتمل عليها هذه الآيات.
الكلمة الأولى: {انْسَلَخ} والسلخ نزع جلد الحيوان، يقال: سلخته فانسلخ، ووضع هذه الكلمة في ذلك النص الكريم له معنى لا يوجد في لفظ غيره، وهو يشير إلى أن البينات والآية المعلمة للحق أحاطت به، ولصقت بنفسه واتصلت بعقله اتصال إهاب الحيوان بلحمه، ولكنَّه انسلخ من هذه البينات، فكلمة انسلخ فيها استعارة، فشبَّه الكفر والفساد بالانسلاخ في الإهاب لكمال الملازمة؛ ولأنَّ الانسلاخ يكون بمعاناة وعنف، إذ إنّ مادة المطاوعة لا تكون إلّا للأفعال التي تحتاج إلى معالجة، فلا يقال كسرت القلم فانكسر، ولا يقال كسرت الزجاج فانكسر، ولكن يقال كسرت الباب فانكسر، ويقال: طويت الحديد فانطوى، فكان هذا تصويرًا لإثبات أنَّ الكفر ضد الفطرة، وأنه يحتاج إلى معاناة للنفس، ومقاومة لدواعي الهوى، ولكنها لا تكون إلَّا اتباعًا لهوى الشيطان.
الكلمة الثانية: اتبعه الشيطان: أي لحقه الشيطان، فإنَّه يقال: أتبعه إذا لحقه، ومن ذلك قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِين} [الشعراء: 60] ، وقوله تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَبًا} [الكهف: 85] ، وقوله تعالى: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42] ، وإن وضع هذه الكلمة في هذا الموضع لهو وضع بلاغي عميق، ففيه إشارة إلى أنَّ الشيطان إنما يلاحق الذين يتركون الآيات، ولا يعملون على الأخذ بموجب البينات، فأول دركات الضلال هو ترك الدلالة المعلمة للحق مع قوة سلطانها، وإن تركها فإنَّ الشيطان يلحقه، ويأخذ به إلى آخر غايات الضلال، وإذا وصل إلى هذه الدرجدة صار من الغاوين، والغواية معناها الجهل المردي، الذي يصحبه اعتقاد فاسد مردود، وكأنَّه بهذا الانسلاخ من موجبات المعرفة، ودواعي الحقيقة ينقلب من عالم بالبينات مدرك لها إلى جاهل أراده جهله في الفساد.
الكلمة الثالثة: {أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْض} ومعنى أخلد إلى الأرض ركن إليها، يحسب أنَّ الركون إليها يجعله خالدًا، ويجعله باقيًا مستمرًّا، وهو يريد البقاء على أي صورة، وإنَّ مقابلة هذه الكلمة بقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} أي: بالبينات، يفيد أنه اختار الاستفال بدل الارتفاع، والضعة بدل الرفعة، ويكون في هذا إثبات أن الرفعة تكون بطلب الحق والإيمان والاستجابة لبيناته، وعدم الانخلاع من موجبها.
نام کتاب : المعجزة الكبرى القرآن نویسنده : أبو زهرة، محمد جلد : 1 صفحه : 86