الضرورة إذا كانت عامة، ثم إن الأمثلة التي ذكرها لم تتضمن مثالاً يتضمن تنزيل الحاجة الخاصة منزلة الضرورة، كما أن الأمثلة التي مثل بها ما هو منصوص عليه كالسلم والإجارة وقد عد البعض هذا من الاستحسان بالنص، وذكر أمثلة اعتبرها البعض الآخر من باب الاستحسان بالإجماع كالاستصناع ودخول الحمام، والشرب من السقاء، وهذه أساس الفتوى فيها هو الحاجة المنزلة منزلة الضرورة، غير أنه أورد عليه أن الفتوى فيها كانت بعد تعارف الناس عليها فهي من العرف على هذا.
وقد يجاب عنه: بأن بدأ العرف الخاص بها لا يمنع من صحة فتوى الفقيه بها، وعلى هذا فمن نظر إلى بدأ العمل بها قال: إن أساس الاستحسان فيها هو العرف، ومن نظر إلى صحة فتوى الفقيه بهذا العرف قبل أن يصير عرفاً عاماً وإجماعاً عملياً قال: إن أساس الاستحسان فيها هو المصلحة، ومن نظر إلى اتفاق المجتهدين أخيراً على جواز التصرف بهذا النوع قال: إن أساس الاستحسان فيها هو الإجماع، وعلى هذا فلا تناقض حيث إن كل واحد نظر في هذه التصرفات إلى مرحلة من مراحل العمل بها[1].
وأما الأخذ بالعرف في غير موضع النص، فإنما يرجع إلى اعتبار المصلحة؛ لأن الناس إنما تستقر أعرافهم وعاداتهم في معاملاتهم على أساس مصالح حياتهم ومعاشهم، فالأخذ به أخذ بالاستصلاح؛ لأنه من باب الأخذ بما شهدت له مقاصد الشرع وقواعده العامة، فلذا كان محل اعتبار من الأئمة بصفة عامة وأبي حنيفة بصفة خاصة، كما نقله عنه الموفق المكي، ولأن في الأخذ به رفقاً بالناس ويسراً ورفعاً للحرج.
يقول البوطي: "والناظر أبداً في المعاملات من كتب الفقه الحنفية يجدها مملوءة بمسائل الاستصلاح باسم الاستحسان آناً، وباسم عرف الناس آناً أخر"[2].
فما أخذ به الأئمة من الاستحسان والعرف "يرجع في الواقع إلى استحسان [1] انظر: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي ص 596 - 597، مع تصرف واختصار. [2] ضوابط المصلحة ص 383.