أدلة اعتبار الغزالي للمرسل:
استدل الغزالي على اعتبار المرسل فيما إذا لم تكن المصلحة فيه تحسينية، وتوفرت فيه الشروط المتقدمة، وهي كونه ملائماً لتصرفات الشارع، وأن لا يعارض نصاً، وأن تكون المصلحة حديثة لم يتقدم مثلها في زمن الصحابة رضي الله عنهم بدليلين:
أحدهما: الدليل على إثبات القياس، وهو إجماع الصحابة على القول بالقياس، ومستندهم في الإجماع أمران:
الأول: علمهم بحال النبي صلى الله عليه وسلم، ومقاصد الشرع في مراعاة المعاني والأسباب من حيث بناء الأحكام عليها، كما في حديث "أنها من الطوافين عليكم" [1]، فقد رتب طهارة سؤر الهرة على سبب هو كثرة تطوافها علينا، ومخالطتها لنا.
الثاني: إذنه صلى الله عليه وسلم لهم في بناء الأحكام على المعاني التي يفهمونها من أدلة الشرع كما في إقراره لمعاذ رضي الله عنه على الاجتهاد حيث قال له: أجتهد رأيي" والاجتهاد هو استنباط الأحكام واستخراجها على ما فهموه من معاني النصوص[2].
قال الغزالي: "فإن قال قائل: لم قلتم إن هذا الجنس حجة؟ وما وجه التمسك به؟ وما الدليل عليه؟ وقد اضطربت فيه مسالك العلماء، وقد قطعتم القول بقبوله؟ قلنا إنما دلنا عليه ما دلنا على قبول أصل القياس[3]، فإنا بينا أن حاصل ذلك كله راجع إلى القول بالرأي الأغلب في فهم مقاصد الشرع. [1] ابن ماجه 1/131، أبو داود في باب سؤر الهرة 1/18. [2] انظر تفاصيل ذلك في رأي الأصوليين في المصالح المرسلة والاستحسان ص 279. [3] استدل الغزالي على قبول القياس بأمرين:
أحدهما: أن مستند القول بالقياس إجماع الصحابة، والمنقول عنهم التعليل بالمعاني الملائمة، دون المناسبات الغريبة التي لا نظير لها في الشرع.
الثاني: أن نكشف عن مستند المستند فنقول: حكم الصحابة بالرأي والقياس لا من تلقاء أنفسهم، بل فهموا من مصادر الشرع وموارده ومداخله وأحكامه ومجاربه ومباعثه - أنه عليه السلام - كان يتبع المعاني ويتبع الأحكام الأسباب المتقاضية لها من وجوه المصالح، فلم يعولوا على المعاني إلا لذلك، ثم فهموا أن الشارع جوز لهم بناء الأحكام على المعاني التي فهموها من شرعه، كقوله عليه الصلاة والسلام لمعاذ: (بم تحكم؟) ، وتقريره على قوله: (أجتهد رأيي) ا. هـ
من شفاء الغليل ص 190 - 191.