نجد أننا إذا أخذنا بعض المواضع بحروفها فإنها تقر أن إرادتنا تشبه تمامًا قلبنا، وذكاءنا، فهذه كلها ليست سوى أدوات بين يدي الله، نوعًا من اللجام الذي يقودنا به كما يشاء، واقرأ في هذا قوله تعالى: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [1]، وقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [2]، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [3]، وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [4].
ولا ريب أننا نستطيع أن نحاول تركيبًا في هذا المجال الجديد، والقرآن نفسه يقدم لنا مبدأ هذا التركيب، حين يعلن: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [5]. فهو إذن حين يقرر أن الله هو الذي يحكم إرادتنا لا ينجم عن ذلك إبراء ساحتنا؛ لأن الله لا يفعل ذلك ابتداء مطلقًا، وإنما هو يجريه كنوع من الإجراء المقابل، أي: كرد على بعض الأشياء من جانبنا. وإذن، فسواء شعر قلبنا بالفرح أو بالانقباض لمعرفة الحقيقة، أو لممارسة الفضيلة، وسواء ضل عقلنا أو اهتدى، توجهت أحكامنا نحو الخير، أو نحو الشر -فإننا حين نقرر أن جميع هذه الآثار تحدث فينا بوساطة قوة عليا، وفوق الطبيعة، نجد أن سوابقها تصدر عن إرادتنا فنحن الذين بدأنا، بأن انفتحنا على النور، أو بأن تحولنا عنه: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [6]. نحن الذين بدأنا بأن أضأنا عقلنا أو طمسناه: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [7]، حكمنا أهواءنا أو اتبعناها: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [8]. [1] الأنعام: 108. [2] الأنعام: 125. [3] الدهر: آخر آية. [4] الأنفال: 24. [5] الرعد: 11. [6] الزخرف: 36. [7] المطففين: 14. [8] الأعراف: 176.