وأين هو التوكيل الذي بمقتضاه يتحدث جزء واحد فقط من الخلق باسم الخالق؟ وما الذي يهدينا في هذه الدعوى؟ أهو غريزة الصدق أم هو الكبرياء والزهو بالذكاء؟
ولا ريب أن الإرادة العاقلة هي أثمن جزء في وجودنا، فهي التي نتميز بها، على حين أن ما تبقى مشترك بيننا وبين الكائنات الدنيا. إنها الملكة القادرة على أن تركزنا في ذواتنا، على حين أن الحواس والغرائز تبعثرنا خارجها. فهي إذن مخصصة ليمنحها الخالق حق السيادة، ودور المبدأ المنظم.
ولكن، هل يكون عدلًا أن يحكم سيد رعاياه دون استشارتهم؟ أليس من الواجب أن يبذل كل طاقته ليضمن لهم النمو الذي يقدرون عليه؟
أين ينتهي العمل الديموقراطي، وأين يبدأ الطغيان والاستبداد في هذا التنظيم؟ ومن ذا الذي يستطيع أن يرسم هذا الخط الفاصل على أساس من الحياد؟
لقد أدرك ذلك الفقهاء المسلمون، فيما خلا عددًا قليلًا من المعتزلة وأشباههم. وقد قرر هؤلاء الفقهاء أنه لإيجاب مسئولياتنا أمام الله لا بد من شريعة تأتي من عند الله بطريقة إيجابية وصريحة، في مقابل ذلك القانون الضمني المستودع ابتداء في فطرتنا. ولن يكون دور هذه الشريعة الجديدة -بلا ريب- أن تبطل قانون الفطرة؛ لأنهما حقيقتان، ما كان لهما أن تتعارضا، ولكن دور الشريعة الإلهية أن تثبت قانون الفطرة، وأن تمنحه سندًا متينًا، وذلك بعد أن تستخلصه بكل نقائه وطهارته.
ويجب أن يبدأ مشروع هذا التطهير المسبق -بداهة- بمنع ضلالات العقل المزعوم قبل وقوعها، وبإيقاظ الضمير النائم تحت أنقاض الأوهام. يقول تقي الدين ابن تيمية: "إن الرسل إنما بعثت بتكميل الفطرة، لا بتغيير