ولقد لزمنا -لكي نجيب عن هذه المسألة- أن نعود مرة أخرى إلى النصوص نستشيرها، ونميز فيها مجموعتين، تبعًا لنزول الوحي بها قبل الهجرة أو بعدها. وهنا نلاحظ: وجود نوعين من السعادة "الروحية والحسية" في المرحلتين، مصحوبين بتفاصيل عديدة.
ومع ذلك، فقد لاحظنا قلة عددية، تكاد تبلغ أحيانًا حد الندرة، في الآيات المدنية، المتعلقة بالجنة أو النار، حتى في جانبهما الروحي.
فإذا ما وسعنا نطاق البحث وجدنا أيضًا أن مراجع القيم الباطنة من النصوص كثيرة جدًّا، في المرحلتين، وكأنها متناسبة مع زمانها الخاص، ومع حجم الحديث المطابق لها[1]. وفي مقابل ذلك نجد أنه على حين يبدأ الحديث الأخروي يقل في المدينة -يظهر اتجاه معاكس له في إطار الاعتبارات الأخرى، فمن الآن فصاعدًا يفسح التبليغ مكانًا أرحب للشعور بالحضور الإلهي، وللنتائج العاجلة، ذات الطابع الأخلاقي، والاجتماعي، والروحي.
ونرى أيضًا مجموعة جديدة تظهر، يفرض الواجب فيها بسلطانه الشكلي المحض، وكل هذا يسمح لنا أن نرى، أن العالم الإسلامي قد شهد مع الهجرة تقدمًا للأفكار الأخلاقية، لا تخلفًا كما كان يقال غالبًا.
وأيًّا ما كان الأمر، فإذا كنا قد عرفنا -هكذا- الوسائل الكثيرة التي يستخدمها القرآن لتسويغ أمره، والجانب الذي فسحه للدوافع الأخلاقية السامية، بما في ذلك التجرد المطلق، والخضوع للشرع لمجرد احترام الشرع -إذا عرفنا ذلك يصبح من الظلم بداهة أن نتهم الأخلاق القرآنية بأنها أخلاق نفعية. [1] من المعلوم أن النصوص المنزلة بعد الهجرة تكاد تشغل ثلث القرآن.