وجه غيرالمحرم فقد كفر نعمة العين، ونعمة الشمس، إذ الإبصار يتم بهما, وإنما خلقتا ليبصر بهما ما ينفعه في دينه ودنياه، ويتقي بهما ما يضره فيهما، فقد استعملهما في غير ما أريدتا به، وهذا لأن المراد من خلق الخلق، وخلق الدنيا وأسبابها -أن يستعين الخلق بهما على الوصول إلى الله تعالى، ولا وصول إليه إلا بمحبته والأنس به في الدنيا، والتجافي عن غرور الدنيا، ولا أنس إلا بدوام الذكر، ولا محبة إلا بالمعرفة الحاصلة بدوام الفكر، ولا يمكن الدوام على الذكر والفكر إلا بدوام البدن، ولا يبقى البدن إلا بالغذاء، ولا يتم الغذاء إلا بالأرض والماء والهواء ولا يتم ذلك إلا بخلق السماء والأرض، وخلق سائر الأعضاء ظاهرًا وباطنًا، فكل ذلك لأجل البدن، والبدن مطية النفس، والراجع إلى الله تعالى هي النفس المطمئنة بطول العبادة والمعرفة؛ فلذلك قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ....} الآية، فكل من استعمل شيئًا في غير طاعة الله فقد كفر نعمة الله في جميع الأسباب التي لا بد منها، لإقدامه على تلك المعصية"[1].
وقد استخلص الشاطبي من هذا التنازع بين الأدلة المتعارضة النتيجة الآتية: أنه لا ينبغي إذن أن نرفض جملة، أو نقبل قبولًا عامًّا كل ما يترتب على النظر في المسببات، ولكن ضابطه أنه إن كان الالتفات إلى المسبب من شأنه التقوية للسبب، والتكملة له، والتحريض على المبالغة في إكماله، فهو الذي يجلب المصلحة، وإن كان من شأنه أن يكر على السبب بالإبطال، أو بالإضعاف، أو بالتهاون به، فهو الذي يجلب المفسدة[2].
ومع اعترافنا بضرورة التفرقة بين الاعتبارين، فإن صياغتنا للفكرة سوف تكون مختلفة اختلافًا يسيرًا. [1] الإحياء 4/ 88. [2] الموافقات 1/ 235.